هناك نسبة مرتفعة من الشباب السعودي من الجنسين، خسروا وظائفهم بفعل أوهام الأحقية وخرافات مدربي تطوير الذات، ولا بد من إيقاف هؤلاء عند حدهم، وبالأخص أصحاب التأثير المرتفع والشعبية الواسعة، وإقرار معايير لأسلوب عملهم، وتوصيف وظيفي معتمد لما يقومون به، وبطريقة تكفل محاسبتهم على شطحاتهم غير المستندة لتجارب علمية أو حقائق موثوقة أو مجربة..
نشرت جامعة سينسناتي الأميركية دراسة في 2019، وفيها إن 70 % من الناس، يشعرون في مرحلة من حياتهم بعدم استحقاقهم الذاتي لما حققوه من نجاحات، وأشارت لوجود امرأتين من كل ثلاث نساء يصبن بذلك، و18 % من الرجال، و86 % من الشباب ما بين عمري 18 و34، بينما يقل السابق فيمن تزيد أعمارهم على 45 عاماً، وأكدت الأبحاث أن ما يصل إلى 30 % من المبدعين والفنانين، من أمثال إيما واتسون وتوم هانكس، والكاتبة الأميركية مايا أنجيلو صاجبة الـ(11 مولفاً)، ونيل ارمسترونغ أول إنسان قام بالمشي على القمر، يعانون من إشكالية عدم الاستحقاق، ويرجع الشعور بعدم الأحقية أو حتى الاستحقاق المفرط إلى تربية الأبناء في مرحلة الطفولة، وانتقادهم بشكل سلبي من الوالدين أو الثناء عليهم بصورة مبالغ فيها.
المسألة لا تقف عند هذا الحد، فالتربية تلعب دورا في إعطاء الشخص إحساسا متوهما بالاستحقاق العالي والنرجسية والغرور، وربما أدخلته في حالة من احتقار الذات، أو ما يعرف بمتلازمة (دايننغ كروغر)، وبالتأكيد كل ما قيل يوفر تربة خصبة لمدربي تطوير الذات والشخصية، ويساعدهم في تحقيق مصالحهم الضيقة، والشخصيات المهووسة بالاستحقاق الذاتي، لديها قدرة زئبقية فائقة في تعظيم أخطاء الخصوم المتفوقين عليها وإبعادهم، وصناعة المشكلات في بيئة العمل، وبدون أن تظهر في المشهد الذي كانت أساسا في بنائه.
المفارقة العجيبة أن المجتمعات الغربية لديها مشكلة عكسية، فقد وجد تقرير صدر في 2024، من شركة (كورن فيري)، وتم إجراؤه على عشرة آلاف موظف حول العالم، أن 71 % من رؤساء الشركات لديهم إحساس أنهم لا يستحقون وظائفهم، وهم بحسب المختصين النفسيين، لديهم ذاتان، الأولى ذات مزيفة يقدمونها للعالم على أنها ناجحة ومحصنة ضد محاولات التشكيك، والثانية ذات حقيقية لم تخرج من مشكلات الطفولة وشكوكها، ويرى الكاتب روبرت هيوز أن العالم أو المفكر كلما كان عظيما زادت شكوكه في استحقاقه وإمكاناته، بينما يحدث النقيض في معظم المجتمعات العربية.
الفكرة التي يتم تسويقها على السوشال ميديا، وبشكل خاص للمجتمع السعودي، والتي تجعل الاستحقاق متاحا لأي أحد وبلا شروط، تنطوي على افتراضات وأفكار مغلوطة، وأبعد ما تكون عن الواقع، بجانب أن الدراسات أكدت وجود أشخاص في أماكن لا يستحقونها، لأسباب تاريخية، ومن الأمثلة، أنه بعد مراجعة لسجلات الضرائب في فلورنسا الإيطالية من قبل باحثين مختصين، وتحديداً ما بين القرن الخامس عشر الميلادي وعام 2016، لوحظ أن العائلات الأغنى في القرن الخامس عشر، ما زالت نفسها لم تتغير في 2016، ووثق آخرون استمرار المكانة الاقتصادية العالية للعائلات الإنجليزية لمدة ثمانية قرون، أو ثماني مئة عام، بمعنى أن الشخص يمكن أن يولد في عائلة غنية، وفي موقع مميز اجتماعيا، لأن عائلته كانت كذلك قبل 800 أو ألف عام، وما سبق يمثل قدرا وحظا إلهياً، ولا مجال للاعتراض عليه.
الاستحقاق العالي الذي تتم المتاجرة به في الوقت، كان سببا في أمور كثيرة ليست جيدة، ومن الناحية الدينية، أول معصية في التاريخ حدثت بسببه، عندما قال إبليس إنه أفضل من آدم لأنه خلق من نار وليس من طين، وأول جريمة قتل حركها الاستحقاق في قصة ابني آدم قابيل وهابيل، وهذه السردية تكررت مع هود ويوسف عليهما السلام، ومعهما صاحب الجنتين في سور الكهف، وكانت السبب الأول لهزيمة المسلمين في يوم حنين، لأنهم اعتقدوا باستحقاقهم للانتصار، بالنظر لعددهم وهو 12 ألف مقاتل، وإجمالا الاعتقاد أن الشخص يستحق لمجرد أنه موجود يتعارض مع مبدأ التوكل على الله، ويهتم بتحفيزات وتوكيدات وتمتمات صوتية بلا معنى، كإخراج المارد الذي بداخل أحدهم، وأنه يستطيع، وبدون الالتفات إلى المحددات التي تعترض طريقه، كالسن والخبرة والكفاءة المهنية، ولو أني أعتقد أن الاستحقاق والترقية على أساس الأقدمية في العمل وحدها، تنطوي على جناية كبيرة في حق المبدعين والمتفوقين علميا ووظيفيا.
الأخطر أن بعض السعوديات ونتيجة لمفهوم الاستحقاق المشوه لديهن، قد يتصورن أنهن يستحقون زوجا أو عملا أفضل، ويقودهن هذا التصور إلى الطلاق والبطالة، ونسبة مرتفعة من الشباب السعودي من الجنسين، خسروا وظائفهم بفعل أوهام الأحقية وخرافات مدربي تطوير الذات، ولا بد من إيقاف هؤلاء عند حدهم، وبالأخص أصحاب التأثير المرتفع والشعبية الواسعة، وإقرار معايير لأسلوب عملهم، وتوصيف وظيفي معتمد لما يقومون به، وبطريقة تكفل محاسبتهم على شطحاتهم غير المستندة لتجارب علمية أو حقائق موثوقة أو مجربة، بالإضافة إلى الرقابة على المؤلفات التي تعِد بالثراء والنجاح في العمل خلال مدد زمنية قصيرة، أو ما يسميه المثقفون الغربيون إصدارات (ميكي ماوس)، من باب السخرية على أفكارها السطحية والساذجة، وما تقدم سيضمن نسبيا، عدم شحن المجتمع المحلي وإرباكه بلا مبرر، مثلما هو الحال في هذه الأيام.