البداية تحدد المكانة المستقبلية، فالدول تقوى وتضعف وتواجهها ظروف قاسية أحيانًا، لكن البداية القوية تحميها وتحافظ عليها، والأهم من ذلك تعزز من مكانتها عندما تسنح لها الظروف وتتوفر الموارد..
نتذكر هذه الأيام بداية تأسيس الدولة السعودية التي تمتد إلى ثلاثة قرون مضت ويتوافق مع هذه الذكرى اللقاء المرتقب بين الرئيس الأميركي "ترمب" والرئيس الروسي "بوتين" في مدينة الرياض. هذا اللقاء المهم الذي قد ينهي الحرب في أوكرانيا لتكون الرياض هي الواحة التي تتشكل منها ملامح العالم في الفترة القادمة. للمناسبتين دلائل مهمة؛ فالتأسيس يعني البداية ويشير إلى الاستمرار، وكل بداية قائمة على أساس عميق لا تخشى الانهيار، حتى وإن واجهت ظروفاً قاهرة، فالتحدي يخلق الاستجابة التي توازي هذا التحدي، فالرياض ولدت بعد بضع سنوات من رماد الدرعية، لتبدأ سيرة مدينة عملاقة وتتشكل ملامح الدولة السعودية الثانية. البداية تؤسس للمبادئ وتحدد القيم التي يعتنقها الناس الذين ينتمون إلى المكان الذي ولدت فيه تلك البداية. لا تستمر القوة إلا بوجود طاقة توليدية داخلية تجدد نفسها باستمرار وتقاوم التحديات التي تواجه المنظومة القيمية التي يقوم عليها نظام الدولة ومجتمعها، وهذه الطاقة ليست مادية فقط، بل هي جزء من "الإيمان" بحتمية بقاء المنظومة وضمان استمرار قوتها. ما يجعل يوم التأسيس له أهمية كبيرة هو تذكّر القيم التي تجمعنا وفهم مصادر القوة التي تضمن لنا الاستمرار والتأثير.
أي حديث عن الهوية يجب أن يرتبط بالبدايات، ورغم أن تلك البدايات لم تكن في يوم "مقيدة" للتطور والإبداع إلا أنها بدايات تصنع "النواة الإبداعية" المولدة للطاقة المتجددة. غالبًا ما تتولّد الهوية من هذه النواة لكنها تتطور عبر الزمن ولا تتوقف عند صور محددة لكن يبقى حبلها السري مرتبطًا بهذه النواة على الدوام، فإذا ما أردنا فهم الهوية وديناميكيتها يجب أن نفهم البداية، أي النواة الإبداعية بشكل عميق لأن الارتباطات الشكلانية المادية للهوية هي الجانب "المتغير" الذي يتجدد عبر الزمن وتغير ظروف الحياة وتقنياتها بينما تبقى "المنظومة القيمية" و"المبادئ المؤسسة" للنواة الإبداعية هي الطاقة الداخلية التي تحقق الثبات الدائم وتشير إلى المكان والانتماءات وتحدد درجة الإيمان بالمؤسسة التي صنعت المنظومة. البداية تحدد ماهية "النواة الإبداعية" التي قامت عليها المؤسسة والتاريخ الممتد لثلاثة قرون يبين كيف تم تفسير هذه النواة وكيف تنوعت "منتجات الهوية" التي ارتبطت بالنواة ولم تنفك عنها في يوم. يجب أن نذكر هنا أن هناك ما يمكن أن نسميه "نواة الهوية" وهي مرتبطة وجوديًا بالنواة الإبداعية، وبين "منتجات الهوية" وهي منتجات يمكن أن تتغير وتتبدل وتأخذ أشكالًا مختلفة بتغير الظروف المحيطة بنواة الهوية لكنها لا تنفك عن الارتباط بهذه النواة.
يوم التأسيس، كما أراه، يشير إلى مصادر القوة التي نملكها ويدعونا إلى فهمها وتقييمها والمحافظة عليها، ويتطلب في نفس الوقت تقييم الوقت الراهن وتحديد المدى الذي وصل إليه تفسير النواة التي ولّدت الطاقة المتجددة وإلى أي مدى نحن لا نزال مرتبطين بها ومتمسكين بمنظومة المبادئ التي تشكلها. أي أمة تتنازل عن نواتها الإبداعية تخسر وجودها المستقبلي، وهذه القاعدة لا تستثني أحدًا، بل تمثل قانونًا حضاريًا يمكن قياسه على الأمم السابقة، لذلك تذكر البدايات، ليس لمجرد الاحتفال والتفاخر، بل هو "تذكّر نقدي" يحيلنا دائمًا إلى تقييم الوضع الراهن وتحديد الحالة الثقافية ودرجة تفاعلنا مع الأمم الأخرى والأهم قدرتنا على المحافظة على وجودنا الخاص الذي يميزنا عن الآخر. يمكن أن أذكر هنا أن "القوة" تراكمية وترتبط باستثمار الطاقة المتجددة التي تولّدها النواة الإبداعية، فلا يمكن أن تكون البداية مختلفة كل مرة، وإلا أصاب هذه النواة التي تولّد القوة وتحافظ على وجودها "العطب".
ومع ذلك يمكن أن نفرق بين نوعين من البدايات، الأولى تلك التي شكلت أساس المبادئ وتكونت على ضوئها الدولة، والثانية مجموعة البدايات الني خلقت حالات الاستجابة للتحديات وصنعت سلسلة من التطورات وساهمت في تجديد المنظومة. الحالة الأولى لا يمكن المراهنة عليها فهي أساس الهوية وصانعة تجديدها، أما الحالة الثانية فتمثل نقاط التحول التي اتخذت فيها الهوية صورًا مادية مختلفة لكن لا يمكن أن نقول إن الصور الجديدة، التي قد تبدو للبعض غريبة، هي التي تمثل الهوية النهائية، فلا يوجد ما يسمى بالهوية النهائية، بل يوجد بداية للهوية دون وجود نهاية لها. مفهوم "الهوية السائلة" الذي طرحته في مداخلتي في مهرجان القرين بدولة الكويت، يعني أن الهوية في حالة تغير دائم مثل السائل الشفاف في الكأس الزجاجي ممكن أن يتغير لونه حسب ظروف اللون المضاف له لكن يظل مؤطرًا بالإناء الذي يوجد فيه.
البداية تحدد المكانة المستقبلية، فالدول تقوى وتضعف وتواجهها ظروف قاسية أحيانًا، لكن البداية القوية تحميها وتحافظ عليها، والأهم من ذلك تعزز من مكانتها عندما تسنح لها الظروف وتتوفر الموارد. الحديث عن اجتماع رئيس أكبر دولتين في العالم في مدينة الرياض هو جزء من هذه المكانة المتنامية والمتجددة التي تحظى بها المملكة. البداية كانت الركيزة والتجدد كان هو السياسة التي صنعت المستقبل وبناء دولة قوية ارتبط بالرؤية التي شكلت مفهوم معاصر للإدارة. يحق لولاة أمر المملكة وشعبها الاحتفاء بيوم تأسيس دولتهم التي لم تفتأ عن التجدد واستثمار مصادر القوة ولم تتخلَّ في يوم عن هويتها الراسخة بارتباطها بنواة البداية والمتجددة بتطلعها للمستقبل.