عند وفاته عام 1829م في "جنوى" الإيطالية، لم يكن لدى العالم البريطاني "جميس سميثسون" أبناءٌ أو ورثة، غير أنه كتب وصية مثيرة، حفظت إرث دولة لم يسافر لها، ولم يكن لها أي علاقة بها!
عالم الكيمياء والجيولوجيا، المولود في باريس عام 1765م، لم يزر العالم الجديد قط! لكنه في وصية غامضة ترك كامل ثروته للحكومة الأميركية، لإنشاء مؤسسة تهدف إلى "نشر المعرفة بين الناس"، حينما كتب: "أترك كامل ممتلكاتي للولايات المتحدة الأميركية، لإنشاء مؤسسة في واشنطن تحمل اسمي، بهدف زيادة ونشر المعرفة بين البشر"، وهو ما أدى لاحقاً إلى تأسيس مؤسسة تحمل اسم عائلته: "سميثسونيان"، والتي خلال عقود أمست أكبر مجمع متاحف وبحوث في العالم.
العجيب أنه لم يتبرع لموطنه الأم بريطانيا، لتبرز عدة فرضيات تحاول تفسير ذلك، أحدها شعوره بالرفض من المجتمع البريطاني بسبب وضعه كابن غير شرعي، بينما فسرها آخرون السبب كونه معجباً بمبادئ التنوير والعلم في أميركا، التي كانت حديثة العهد بالاستقلال وقيم الحرية وتهتم بالعلم والتعليم، وقد يكون رغبته في تخليد اسمه للأبد في بلد يقدر المعرفة.
بعد وفاة "سميثسون"، انتقلت الأموال إلى وريثه الأولي، ابن أخيه "هنري جيمس دي هونتر"، الذي توفي لاحقاً دون أبناء، مما جعل الأموال تنتقل تلقائياً إلى الحكومة الأميركية، ويرسل الرئيس الأميركي أندرو جاكسون دبلوماسياً إلى بريطانيا لجمع الأموال، ثم بحلول عام 1838م، وصل على متن سفينة إلى أميركا مبلغ 508,318 دولاراً (ما يعادل عشرات الملايين اليوم).
لكن جدلاً ونقاش في الكونغرس حول كيفية استخدام المال، أخرّ إقرار قانون إنشاء "مؤسسة سميثسونيان" حتى عام 1846م، الذي هدف دعم البحث العلمي والتعليم العام، ليبدأ إنشاء المتحف الأول في واشنطن العاصمة وأطلق عليه "القلعة"، ولتكبر السلسلة إلى متاحف ضخمة، ذات مقتنيات نادرة، ونشاط علمي وبحثي معتبر، وصلت إلى 19 متحفاً و21 مكتبة و9 مراكز بحوث، وحديقة حيوان وطنية، كلها تفتح أبوابها مجاناً للجمهور، بفضل هذا الإحسان الوقفي لشخص غير أميركي!
والحقيقة لا تخلو زياراتي لواشنطن العاصمة، من قضاء نهار كامل في أحد متاحف "سميثونيان" الضخمة، في منطقة "الناشنوال مول"، ومن أبرزها متحف التاريخ الأميركي، ومتحف التاريخ الطبيعي -الذي زرته مرات عديدة، والمتحف الوطني للطيران والفضاء، ومؤخراً زرت متحف تاريخ وثقافة الأميركيين الأفارقة.
دوماً أتعجب من أثر وصية رجلٍ لم تطأ قدمه أميركا قط! قادت إلى تأسيس مؤسسة معرفية ضخمة، أضحت اليوم المرجع الأول للتاريخ والثقافة ليس في أميركا وحسب، بل في العالم.
في عام 1904م نقلت رفات "جميس سميثون" من إيطاليا إلى أميركا، ودفن في قلعة سميثسونيان -أول متحف أنشى بأمواله- تكريماً له.