يمكن اعتبار رواية "العدو" وجهة نظر أخرى حول عمارة النصف الأول من القرن العشرين في أميركا وربما العالم، كون عمارة الحداثة وطرازها العالمي الذي أعلنه "جروبيوس وهتشكوك" عام 1932 اجتاح العالم، وتركيزها على عمارة علمين معماريين شكلا هوية العمارة الأميركية في تلك الفترة، ومن وجهة نظر شاب في طريقه للتشكل الثقافي ويبحث عن "الجمال" الذي فقدته مدينته ومجتمعه..
في طريقي إلى مهرجان القرين بدولة الكويت التقيت في المطار بالصديق الإعلامي المعروف محمد رضا نصر الله وتحدثنا عن العصر الذهبي للأدب العربي والمقابلات المهمة التي أجراها مع كثير من الأدباء والمفكرين، لكنني فاجأته بسؤال حول "الرواية المعمارية" وقلت له إنه يندر أن يتحدث الأدباء العرب عن العمارة في رواياتهم بأسلوب عميق يتجاوز مجرد سرد الأمكنة. لم أجد رواية تشبه رواية "شفرة دافنشي" لـ"دان براون" التي فكك فيها متحف اللوفر وكأنه ناقد معماري. فجأة أتى شاب اسمه عبدالعزيز محمد من مدينة الخبر وعرف نفسه بأنه روائي وكتب رواية (تحت الطبع) عن معماري سعودي شاب يكافح من أجل بناء مهنته وذكر أنه لمحني وأراد أن يسلم علي ويشكرني لأنه استفاد كثيرا من المقالات التي نشرتها في جريدة الرياض حول العمارة.
لا أكذبكم القول، فقد شعرت بالسعادة لأن هناك من الأدباء من يهتم بالعمارة ولأن الكتابة المعمارية الخالصة قد تساعد في صناعة الرواية المعمارية. التفت إلى الإعلامي نصر الله وقلت له: حتى لا أكون متحيزا أذكر أنني قرأت رواية لكاتب مصري اسمه فتحي غانم وهي رواية قصيرة عن عمل المعماري حسن فتحي انتقد فيها مشروع القرنة الذي صممه عام 1949. وكان عنوان الرواية "الجبل" ونشرت عام 1958 وعمل حولها فلم سينمائي بنفس العنوان عام 1965.
كان رد نصر الله على شكل سؤال فقال لي: هل قرأت رواية "العدو" لـ"جيمس دروت" قلت له "لا" لا أعرفها، فذكر لي أنها رواية قصيرة كتبت في الستينات تعبر عن أدب جيل الغاضبين في الولايات المتحدة وركزت على العمارة بشكل خاص وكأنها كتبت للمعماريين في تلك الفترة، وقال إن من ترجم هذه الرواية هو صنع الله إبراهيم الذي يعد أحد أبرز المترجمين العرب. قررت أن أبحث عن الرواية فوجدتها منتشرة في الشبكة العنكبوتية وقمت بقراءة الفقرة الأولى التي صدمتني فمدخل الرواية "نقد شرس" لمنزل بطل الرواية في مدينة أميركية صغيرة تدعى "بروكدال".
يقول في مطلع الرواية: "أدركت منذ طفولتي المبكرة ﻗُﺒﺢ ﻛﻞﱢ ﻣﺎ يحيط ﺑﻲ ﻣﻦ ﺻﻨﻊ اﻹﻧﺴﺎن، وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أتبينﱠ هذا في المنزل الذي أعيش ﻓﻴﻪ إﻻ ﻓﻴﻤﺎ بعد. فقد ﻛﺎن منزلي ككل ﻣﺎ عداه، قاصرا، ﻓﻘير اﻟﺒﻨﺎء، وﺣﺸﺎ ﺻﻐيرًا". لقد أثارني هذا الرأي المحمّل بكثير من "النقد الجمالي" للعمارة، التي عادة لا تحظى بمثل هذه الآراء المباشرة في الأدب العربي، إذا ما استثنينا رواية "الجبل" لفتحي غانم، الذي لم يذكر المكان ولم يتطرق للمعماري الذي صمم المشروع.
"دروت" يمثل جيل من الأدباء الأميركيين الغاضبين، فهذه الرواية جزء من "الحلم الأميركي" وتفتح الباب حول النقد العميق للقرارات العمرانية التي تم اتخاذها فيذكر أنه لم يعجبه أي شيء في المدينة التي يعيش فيها سوى مبنى واحد تم تحويله بعد ذلك إلى محطة كهرباء. يتحدث عن هذا القرار بمرارة وكان عمره صغيرا آنذاك لكن العمارة كانت جزءا من تكوينه العقلي أو من حلمه. قيمة المكتبة تنبهت لهذا الشغف لديه فسمحت له باستعارة الكتب الخاصة بمصمم المبنى الذي أعجبه، وتبين بعد ذلك أن المصمم هو المعمار الأميركي "لويس سوليفان"، ومن لا يعرف هذا المعماري الذي ينتمي لمدرسة "الكلاسيكية الجديدة" في نهاية القرن التاسع عشر، هو الذي قال: "الشكل يتبع الوظيفة" التي كانت شعارا أساسيا لعمارة الحداثة في النصف الأول من القرن العشرين. السرد العميق لكيفية اكتشاف هذه الشخصية المعمارية لم يخلُ من نقد لاذع للمناخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في أميركا وكأنه يقول إن العمارة بحضورها الجمالي الذي يغمرنا ويجبرنا، لا محالة، للعيش فيه هي جزء من هذه المنظومة المتشابكة من المناخات التي تخلق القرارات التي تصنع حياتنا.
تتحدث الرواية عن "سوليفان" وتلميذه "فرانك لويد رايت" ذائع الصيت الذي يعد أحد أركان عمارة الحداثة ومؤسس العمارة العضوية المعاصرة ومصمم معرض "جوجنهايم" في الجادة الخامسة بمنهاتن. لن أتحدث بالتفصيل عن الرواية وسأتركها لمقال قادم، فهي تستحق دراسة تفكيكية، كونها أحد الروايات المعمارية النادرة. أذكر أنني قبل عقدين حاولت أن أكتب سلسلة من المقالات عن "العمارة والأدب" نشرتها في جريدة الرياض، ونشرت دراسة مطولة عن "العمارة في الرواية السعودية"، والحقيقة أنني لم أجد هذا النقد الفكري والجمالي المباشر الذي تتمتع به رواية "العدو"، لأن "دروت" لم تنقصه الشجاعة أن ينتقد أعمال "سوليفان"، فقد اكتشف أن هناك علمين مهمين قريبين من قريته أحدهما لـ"رايت" والثاني لـ "سوليفان" ولم يتردد في ذكر أن عمارة الأول أكثر عمقا من الثاني لكن تظل عمارة "سوليفان" تمثل مرحلة التحول نحو الحداثة. التفاصيل في هذه الرواية مهمة، فهي ليست مملة والنقد ليس جافا بل مرتبط بالمشاعر وبالتصور الشخصي للكاتب عن العمارة والكون بالإضافة إلى كونه نقد مرتبط بالسيرة الذاتية لبطل الرواية وانتمائه الثقافي والمجتمعي الذي يعبر عما وصلت إليه أميركا بعد الحرب العالمية الثانية.
يمكن اعتبار هذه الرواية المتفردة، وجهة نظر أخرى حول عمارة النصف الأول من القرن العشرين في أميركا وربما العالم، كون عمارة الحداثة وطرازها العالمي الذي أعلنه "جروبيوس وهتشكوك" عام 1932 اجتاح العالم، وتركيزها على عمارة علمين معماريين شكلا هوية العمارة الأميركية في تلك الفترة، ومن وجهة نظر شاب صغير في طريقه للتشكل الثقافي ويبحث عن "الجمال" الذي فقدته مدينته ومجتمعه، يمثل كل هذا بعدا نقديا مغايرا لما يفكر فيه الناقد المعماري المتخصص، إذ يبدو أن العمارة بحاجة إلى الأدب بشدة، وهذا ما نفتقده في الثقافة العربية.