لا بد من حلول لمواجهة هذه المشكلة، وعلى رأسها إبعاد الأشخاص عن الاستخدام المفرط وغير المنضبط للسوشال ميديا، ولو احتاج الأمر إلى إقرار تشريعات عقابية بحق المتجاوزين، أو إلزامهم بالرياضة وبمعايير صحية معينة، أو ربطها بالحصول على بعض الخدمات، أو إدراجها كمتطلب أساسي في الترقيات الوظيفية للمدنيين والعسكريين..

في دراسة نشرتها جامعة كاليفورنيا الأميركية عام 2019، لوحظ أن الأشخاص إذا خفضوا معدل استخدام السوشال ميديا، بمقدار ساعتين كل شهر، فهذا سيرفع الانتباه لديهم بنسبة 15 %، وتكلمت مجلة (نيورو إيمج) في 2021، عن التعرض المستمر للمحفزات الرقمية، وتأثيره على فصوص المخ الأمامية، التي تقوم بمهمة التخطيط واتخاذ القرارات، وتناولت الجمعية الأميركية لعلم النفس (أيه بي أيه)، في واحدة من دراستها لذات العام، بأن الإفراط في مشاهدة المحتوى القصير على انستغرام، أو ما يعرف بـ(الريلز)، ولفترة طويلة، قد يحدث تراجعا في القدرة على التركيز، وبالأخص عند قيام الأشخاص بالمهام الذهنية المعقدة.

السابق ينسجم مع ما أعلنه خبراء اللغة في جامعة أكسفورد، التي تصدر القاموس المعروف الذي يحمل اسمها، وتختار كلمة أو مصطلح يكون الأكثر استخداما في كل عام، وقد كان مصطلحها لعام 2024 هو تعفن الدماغ، بعدما ثبت تداوله بنسبة 230 %، ما بين عامي 2023 و2024، ونافسته على الصدارة كلمة (سلوب)، ويقصد بها المحتوى الرديء، المنشأ بمعرفة الذكاء الاصطناعي، بشكليه المصور والمكتوب، وذلك بعد تحليل مجموعة مكونة من 26 مليار كلمة، وردت كلها في مصادر الأخبار العالمية الناطقة بالإنجليزية، إلى جانب تصويت شارك فيه 37 مليون شخص.

تعفن الدماغ يعني الضبابية والخمول الذهني الذي ينتاب الشخص، بسبب الإفراط في النظر لشاشة الجوال، واستهلاك المحتوى القصير، سريع الوتيرة، ومنخفض الجودة والقيمة، على منصات السوشال ميديا، وهو يشبه الزهايمر في أعراضه، والفارق بينهما أن الثاني حالة عصبية، تؤدي إلى فقدان تدريجي للقدرات المعرفية بفعل مشاكل طبية، بينما الأول مجرد نتيحة سلوكية ونمط حياة قابل للتصحيح، واستناداً لشبكة (بي بي سي) البريطانية، فالمصطلح قديم ويسبق ظهور الإنترنت، بحوالي 170 عاماً، وأول من استخدمه الشاعر والفيلسوف الأميركي هنري ثورو عام 1854، في قصيدته المسماة (والدن)، التي انتقد فيها ميل المجتمع إلى التقليل من قيمة الأفكار العميقة، واعتبره جزءا من الانحدار العام في العقل والفكر، ودائرة التسمر الرقمي العشوائي أمام التوافه، ربما حولت الدماغ لكتلة مشوهة وعديمة المنفعة، ولا تستطيع التركيز إلا في حدود 30 ثانية أو أقل، بخلاف أضرارها الصحية الصعبة.

فقد أكدت دراسة نشرت قي 2021، أن قضاء ساعات طويلة في مشاهدة هذه المقاطع، يؤثر على المادة الرمادية في الدماغ، والتي تتركز فيها الخلايا العصبية، وتكبر مع الشخص من مرحلة الطفولة إلى سن 20 عاماً، ونموها في هذه الفترة الحرجة ضروري، لأنه إذا لم يحدث، فإنه سيؤثر على حركة الشخص وذاكرته وعواطفه، وبحسب الإحصاءات العالمية، من يستخدمون الإنترنت تصل أعدادهم لستة مليارات شخص، أو ما نسبته 66 % من إجمالي سكان العالم، ومتوسط استخدامهم يصل لسبع ساعات، ما يعني ضياع ما لا يقل عن 16 عاما من أعمارهم، وهم أمام شاشة الجوال أو الكمبيوتر المحمول أو المكتبي أو الآيباد، ولاستخدامات غير مفيدة، ومن الشواهد، أن وكالة ناسا الأميركية، تعطلت شبكتها الداخلية، قبل عشرة أعوام أو يزيد، لأن العلماء فيها، كانوا مشغولين عن أبحاثهم الكونية المهمة، بتبادل مقاطع غير بريئة، وبالتالي فالتعفن الدماغي يشمل العالم والجاهل معا.

التحول لتعفن الدماغ، يجعل مخ الشخص أقرب لما يسمونه بـ(مخ الفشار) أو الـ(بوب كورن برين)، والمعنى أنه ينتقل بين الأفكار بصورة عشوائية، تماما كفرقعة الفشار، ولا يمكن التنبؤ بأفكاره القادمة، لأنها في الغالب غير مترابطة وبلا منطق، ومن غير المتوقع أن تكون قراراته سليمة على الأرجح، والدليل ما وجدته دراسة نشرت في 2022، وتم إجراؤها لمجموعة من الشباب الصيني، تتراوح أعمارهم ما بين 18 و27 عاما، ممن صنفوا كمدمنين كلاسيكيين للمحتوى المعتفن، حيث لاحظت معاناتهم من صعوبات في اتخاذ القرارات، وفي حل المشكلات، وفي قوة التركيز والذاكرة.

الانشغال بالسوشال ميديا سيقود بالتأكيد لتعفن الدماغ، وما يصاحبه من خمول وقلة في الحركة، والأخيرة تعتبر السبب الرابع للوفاة على مستوى الكوكب، لأن العالم يخسر بسببها خمسة ملايين شخص سنويا، وأتمنى تغير الأوضاع في الوقت الحالي، فالحركة وخصوصا ممارسة الرياضة، تزيد من عمر الناس بمعدل خمسة أعوام في المتوسط، وتوجد مقولة طبية تصفها بجراحة التجميل للفقراء، فهم يبدون بمجرد ممارستها أكثر جمالاً، أقول هذا لأنه وبحسب إحصاءات الأمم المتحدة لعام 2018، والخاصة بالدول الأكثر خمولا وكسلاً، جاءت المملكة في الترتيب الثاني خلف إندونيسيا، ومن بعدها جنوب إفريقيا وماليزيا ومصر، ولا بد من حلول لمواجهة هذه المشكلة، وعلى رأسها إبعاد الأشخاص عن الاستخدام المفرط وغير المنضبط للسوشال ميديا، ولو احتاج الأمر إلى إقرار تشريعات عقابية بحق المتجاوزين، أو إلزامهم بالرياضة وبمعايير صحية معينة، أو ربطها بالحصول على بعض الخدمات، أو إدراجها كمتطلب أساسي في الترقيات الوظيفية للمدنيين والعسكريين، أو بمكافأة مالية أو معنوية لمن يقومون بالصيام الإلكتروني المتقطع أو المتواصل.