قبل أن أتحدث عن عنوان هذا المقال أود أن أشير إلى رسالة مهمة جدا وصلتني عبر منصة «إكس» بعد أن نشر مقالي الأسبوع الماضي في هذه الصحيفــة تحت عنــوان (إقليم الوشم مكانا وإنسانا)، وعلى إثر المقال كانت الرسالة تمتدح النزعة التأملية التي تستغور عبقرية الوجود وذاكرته المشبعة بتفاصيل مختلفة يتشابك فيها حالة الانطباع والخيال الواسع، وما كان لي بد من تجاوز الرسالة وخصوصا أنها ملهمة لمقال اليوم، وقد امتدحت هذه الفئه الواعية لصاحبها في حينه والرسالة هي التي ألهمتني للكتابة عن التأمل كأداة لسيطرتنا الأولى لإعمال العقل ومنح وصول المعلومات إلى دائرة الاحتكام (العقل) ومن ثم مداولتها بطرائق مختلفة لنمنحها ألق صفتها بالفرز والتحليل والرؤى المتعددة مما ينقلنا إلى حالة عرفانية تتجلى فيها البصائر وبالتالي تعزز رؤيتنا للزوايا العمياء كما يراها البعض أو حتى غبش وضبابية ملامحها، واستتباعا لذلك فإن حالات التأمل تتخذ أشكالاً مختلفة فقد نستدعي ما يحيط بنا من خلال بعض الحواس مما يجعل الذهن مفعما بهالة كبيرة من المثيرات الخارجية كحالة أوليه للانفتاح الذهني لتحليل الأشياء وتمايزها بصفاتها فيتحول ذلك إلى حفز عقلي قوي يوصلنا بمعاني ودلالات مختلفة وهو ما يجعلك أنت شخصيا تختلف عن غيرك وتتقدم بمرتبة على الآخرين وبالتالي تكون على قدرة واعية للتعبير عن الأشياء والموجودات بمنطق معرفي يستصحب معه القناعة وبالتالي تضع الجميع معك في مفرق اليقين ويتهادى الجمع على إثرك لتبعية مطمئنة تنضح بالمعرفة والاستكشاف التي تبتعد عن الضعف الزائف للذهن لكل هذا الامتداد الثقافي والجغرافي ضمن عالمنا الخارجي المواتي لنا كل يوم، ففي مسرح الحياة تنشط كل المعارف وكما يقول الجاحظ: (المعــرفة ملقاة على قارعــة الطــريق)، ولكن كيف نلتقطها ونتناولها بوعينا؟ وكيف نفطن للأشياء ونرى بعد المعنى وكذا معنى المعنى؟ إننا حينما نقف لحظة تأمل أمام طابور الحياة العابر وطوفانها الهادر فإن ذلك يضع المتأمل أمام لحظات فلسفية دقيقة وراقية تتماها مع هذا التنوع لجوهر الأشياء وحقائقها المختلفة على قاعدة (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الحج 46، كل ذلك يجعلنا نعيش أبعاد وقع إيقاع الواقع بكل تجلياته ويمنحنا ردود أفعال إيجابية تجاه الأشياء والموجودات وتتسع أسباب مساحة المعرفة لمعرفة الشيء وما خلفه ونعيش جماليات الوجود وفنون الحياة بصورةٍ تبعدنا عن كل ضجيج الحياة وصخب غمرة الغادين فيها، وحين نكون هناك في تلك الفسحة المتأملة حتما ستنجلي فيها حالة الإعتام والضبابية التي تسيطر على رؤيتنا لأننا سوف نلتصق بهذا الوجود وكذا بالناس والحياة برمتها ونكون عارفين للأبعاد المتفاوتة وغارقين بين ملامحها وثنائياتها المختلفة، ومن هنا يتحقق مفهوم السير في الأرض المستصحب معه بعد النظر والفطنة متأملين في مسالكها بدروب الحياة ومناكبها الواسعة لنتخذ منها صديقا نتحاور معه بكل حواسنا لنكتشف الوجه المشرق في ثناياها المتعددة وفي مد فسيح قد نظلمه ببؤس تجاهلنا وغفلتنا بفتور تأملنا وضمور فطنتا وسذاجة نظرتنا عن مثيرات كونية وجغرافية وثقافية شائعة.