أشرنا آنفاً في المقال السابق إلى حضور رمضان في كتب الأدب، وفي هذا المقال نسعى إلى رصد هذا الحضور لدى جملة من البلاغيين والنقاد القدامى؛ لهذا نحاول في هذا المقال الكشف عن تلك السمة في أهم كتب البلاغة والنقد، ونشير إلى أن تناول هذا الشهر جاء موزعاً بين الاستشهاد به، والمرور عليه، والتطرق له في معرض حديث عام، وربما ورد ذكره على سبيل التمثيل، أو الشرح، أو التفسير، أو ما شابه ذلك، غير أنه تفاوت بين أشكال متنوعة، ومظاهر متعددة.

فمن ذلك ما ورد في كتاب (الشعر والشعراء) لأبي محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (276هـ) حيث نجد فيه هذا النص مثلاً: «وخرج في شهر رمضان على فرس له بالكوفة يريد الكناسة، فمرّ بأبي سمال الأسدي، فوقف عليه، فقال: هل لك في رؤوس حملان في كرش، في تنور، من أول الليل إلى آخره، قد أينعت وتهرأت؟! فقال له: (ويحك)، أفي شهر رمضان تقول هذا؟!».

وفي كتاب (أسرار البلاغة) لأبي بكر عبدالقاهر بن عبدالرحمن الجرجاني (471هـ) تطرق ضمن حديثه عن (التشبيه والتمثيل) لرمضان، على نحو ما أورده في هذا النص، يقول: «كما قال ابن العميد في كتاب يداعب فيه، ويظهر التظلم من هلال الصوم، ويدعو على القمر، فقال: وأرغب إلى الله تعالى في أن يقرب علي القمر دوره، وينقص مسافة فلكه». ومع أن رمضان شهر الخير، والروحانية، والطمأنينة، فإنه من الغريب أن تجد من يتبرّم منه، كما فعل ابن العميد (367هـ)، الذي رصدتُ له رسالة أخرى مشابهة، ليس هذا موطن ذكرها.

وجاء عند ابن رشيق القيرواني (456هـ) في كتابه (العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده): «ثم أدركه اللين والفترة فقال: فكأنني أفطرت في رمضان يريد: إني بمجاهرتي بهذا القول كأنما جاهرت بالإفطار في رمضان نهاراً، وكل أحد ينكر ذلك علي، ويستعظمه من فعلي، وهذا معنى جيد غريب، في لفظ رديء غير معرب عما في النفس». وقال: «وكتب أحمد بن يوسف، وفي رواية النحاس: عمرو بن مسعدة، عن المأمون: أما بعد فقد أمر أمير المؤمنين من الاستكثار من المصابيح في شهر رمضان؛ فإن في ذلك أنساً للسابلة، وضياءً للمجتهدين، ونفيًا لمكامن الريب، وتنزيها لبيوت الله -عز وجل- عن وحشة الظُلَم».

ونقل ابن الأثير الكاتب (637هـ) في كتابه (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) صورة من مظاهر رمضان عندما قال: «وبلغني أن قوماً ببغداد من رعاع العامة، يطوفون بالليل في شهر رمضان على الحارات، وينادون بالسحور، ويخرجون ذلك في كلام موزون على هيئة الشعر، وإن لم يكن من بحار الشعر المنقولة عن العرب، وسمعت شيئاً منه فوجدت فيه معاني حسنة مليحة، ومعاني غريبة، وإن لم تكن الألفاظ التي صيغت بها صيغة، وهذا الركن أيضاً يشترك فيه الكاتب والشاعر».

ويحضر رمضان في كتب الموازنات النقدية، فنراه شاهداً من الشواهد التي يسوقها البلاغيون والنقاد للإبانة عن معنى حسن، أو لفظ رشيق، أو ما شابه ذلك، وقد لمسنا هذا الصنيع في (الموازنة بين أبي تمام والبحتري) لأبي القاسم لآمدي (370هـ)، وفي (الوساطة بين المتنبي وخصومه) للقاضي الجرجاني (391هـ)، وفي (تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر) لابن أبي الإصبع العدواني (654هـ)، وغيرهم.