في زيارتي الأخيرة إلى مدينة ينبع، التي جاءت بدعوة كريمة من الشريك الأدبي -مقهى أورا- المنبثق عن هيئة الأدب والنشر والترجمة بوزارة الثقافة، شعرت بتجليات عديدة لعلاقة وثيقة تربطني بهذه المدينة الساحرة وأهلها الطيبين.. كانت سعادتي غامرة وأنا أعود إليها ضيفا، بعد أن قضيت فيها مرحلة مبكرة كمتدرب يافع، تخرج للتو من مركز أرامكو التدريبي في الظهران.. أمضيت فيها عقدا من زمن ذهبي ينبغي، عايشت أهلها العظماء وزاملت كرامها النبلاء. كانت لحظات اليوم تعيد إليّ ذكريات الأمس والحنين لأجمل سنين.
لقد تركت المدينة وفي قلبي بصمة لا تنسى، فكل زاوية فيها تروي قصة، وكل لقاء مع أهلها يفتح نافذة على تاريخ تمتزج تفاصيله بالجود والشهامة والاعتزاز والبناء والعطاء.. كنت ومازلت أؤكد أن ينبع تستحق المزيد والمزيد، فهي تتألق بتشكيلاتها الفريدة التي يصعب العثور على نظير لها في بقية المناطق.. هنا، تجد ينبع البحر، وينبع الصناعية، وينبع النخل، وكل واحدة منها تحتضن جمالا فريدا ومقومات خلاقة.
تتفرد هذه المحافظة بامتيازات تجعلها تنافس أفضل وجهات السياحة على المستوى الوطني والإقليمي. ففي ينبع، يتعانق البحر مع الصحراء، وتلتقي المواقع الجبلية مع الأراضي الزراعية، وقد سميت بهذا الاسم لكثرة ينابيعها المتدفقة. كذلك، فإن ينبع تحتضن تراثا عريقا وتاريخا يمتد إلى عصور ضاربة في عمق التاريخ، بالإضافة إلى المنطقة الصناعية التي تتهيأ لتنافس نظيرتها الجبيل كأكبر مدينة صناعية في العالم، إذ إن ينبع الصناعية تعدّ أكبر مدينة سكنية تم تخطيطها وبناؤها كوحدة سكانية تستوعب لحوالي ربع مليون نسمة، مما يعكس رؤية مستقبلية طموحة.
وإلى جانب كل ذلك، تزخر المنطقة بالفنون الشعبية الينبعية التي تأسر القلوب، فمن لا يعرف الطرب الينبعاوي، فإنه يفتقد جزءا من حسه وذوقه الفني.
أين لك أن تجد شاطئا تتفيأ ظلال النخيل على جنباته، حيث تتلاقى أصوات الأمواج بحفيف الشجر؟
وأين لك منطقة جبلية تلتف حول البحر، تحتضن أكاليل زهر البساتين بألوانها الزاهية وتشكيلاتها الزراعية الخلابة؟
أين لك أن ترى منطقة صناعية تمتد بقدراتها للعالم، تمده بالطاقة والمشتقات الحيوية؟
وأين لك بموقع يتمتع بمكانة تاريخية مرموقة قبل الإسلام وبعده؟
أين لك أن تجد كل هذا وأكثر من مقومات وامتيازات مجتمعة في بقعة واحدة سوى في ينبع، هذه الجوهرة الفريدة التي تجمع بين جمال الطبيعة وعظمة الإنجازات البشرية؟
هنا، في ينبع، سارت قوافل الشعراء تتغنى بجمال تفاصيل أرضها ومياهها وقراها، وتدفّق إلهامهم من كل زاوية، كما فعل كثيّر عزة الذي أبدع في وصف جبل رضوى الشهير وبعض القرى المجاورة كقوله:
وأعرض من رضوى من الليل دونها
هضاب ترد العين ممن يشيع
وقال عن عظمة جبل رضوى:
ولو وزنت رضوى الجبال بحلمه
لمال رضوى حلمه ويرمرم
وقول المتنبي:
ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى
رضوى على أيدي الرجال يسير
وقول أبي العلاء المعري:
يهم الليالي ما أنا مضمر
ويثقل رضوى ما أنا حامل
إن ينبع ليست مجرد نقطة على الخريطة، بل هي رمز للتراث الثقافي الذي يمتد عبر العصور، تجد صدى للأشعار التي خلدت ذكرى هذه الأرض ولوحة فنية تنسج تفاصيلها من البحر والصحراء، الجبال والبساتين، التراث والحداثة. هنا، تتعانق العناصر لتشكل تجربة استثنائية تأسر القلوب وتخطف الأنفاس. إن زيارة ينبع هي دعوة لاستكشاف عبق التاريخ وتنوع الحياة التقليدية والمعاصرة، لتعيش لحظات لا تُنسى في مكان يجسد عبقرية الطبيعة وروعة الإنسان.
أؤكد أن محافظة ينبع بكل هذه التفاصيل وأكثر تستحق اهتمامًا أكبر لتصبح مركزًا سياحيًا فريدًا من نوعه، نظرًا لوجود مقومات فريدة مجتمعة في مكان واحد، كما أشرنا في ثنايا هذا المحتوى. إن الاستثمار في ينبع هو استثمار في مستقبل مشرق يُظهر جمال الوطن وثراء ثقافته.