الكذب من أسوأ العادات المذمومة في أي مجتمع، وتؤدي الاستهانة به إلى إهدار الحقوق وإخلاف المواعيد وضياع الأمانة.. ولهذا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الكذب، وعدّه نقصًا في الإيمان، فالمسلم قد يسرق لحاجة، لكنه لا يكذب.. وقد ورد التحذير منه في آيات وأحاديث كثيرة..

بما أن أكثر المجتمعين من رجال الأعمال، فقد دار الحديث عن التحكيم التجاري، وما طرأ على المركز السعودي للتحكيم التجاري، من تطوير، حيث تم تعيين أفضل الكفاءات فيه من القطاع العام والخاص، وتزويده بالعنصر البشري من الكفاءات الدولية. أشاروا إلى أهميته، بالنسبة لمن يرغب الاستثمار في المملكة. وقد أورد أحد الحضور تجربته مع التحكيم الدولي وما مرّ به مع شركة أميركية، حيث قامت الشركة بسحب مبلغ من المال مخصص للاستثمار المشترك من مصرف سعودي إلى حساب الشركة في أميركا، وماطلت في إعادته، وحين لجأ الشريك السعودي للتحكيم، كما هو موضح في العقد الموثق بين الشركتين؛ طلب القاضي من ممثل الشركة الأميركية إحضار البريد الإلكتروني الذي بموجبه تم سحب المبلغ. وحين اطلع القاضي على البريد الإلكتروني حكم للشريك السعودي، وتمت إعادة المبلغ، مع تكاليف أتعاب المحامين والتحكيم.. وأضاف صديقي المتحدث عبارة فيها تعميم أخلّ بها، وهي أن: "الأميركي لا يكذب"، والحقيقة أنه في الغالب لا يكذب، ليس لأنه ملاك، لكن لأنه يخاف العقاب، وقد يعاقب على الكذب أكثر مما يعاقب على الفعل نفسه. وهو ما حصل للكثير من المسؤولين في الحكومة والشركات الأميركية. وقد كنت شاهداً على حالة كذب دفع الكاذب ثمنها غالياً. فقد كنت في دورة تدريب على الطيران المتقدم حين ذهب أحد ضباط الدورة إلى طبيب الطيران وادعى أنه مريض، لكن المسؤولين اكتشفوا أن ادعاءه غير صحيح وأنه تحايل ليتمتع بنهاية أسبوع طويلة، وقد تم فصله من القوات الجوية مع ما يتبع ذلك من إجراءات أخرى.

الكذب من أسوأ العادات المذمومة في أي مجتمع، وتؤدي الاستهانة به إلى إهدار الحقوق وإخلاف المواعيد وضياع الأمانة. ولهذا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الكذب، وعدّه نقصاً في الإيمان. فالمسلم قد يسرق لحاجة، لكنه لا يكذب. وقد ورد التحذير منه في آيات وأحاديث كثيرة، وثناء على الصادقين كقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين". (التوبة 119) وقوله تعالى: "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم، لهم جنات تجري من تحتها الأنهار". (المائدة 119).

كل ذلك يجعلنا نحرص على تنشئة جيل يتوخى الصدق في كل أفعاله وأقواله. وهذا يحتم علينا أن نبذل جهوداً مضاعفة، ومنذ الطفولة المبكرة من أهمها:

أولاً: المنزل هو الأساس لتعلم القيم النبيلة ومنها تعلم الصدق واجتناب الكذب. وهنا لابد أن تكون الأم والأب قدوة في قول الصدق، وعدم الكذب في أي حال من الأحوال. يجب أن يعطى الطفل الأمان ليقول الصدق. ويكافأ على قول الصدق، كما يعاقب على الكذب. ما يتعلمه الطفل في سنواته الست الأولى هو الأهم والذي يبقى دليلا له في مسيرته في الحياة كقمة جبل يستدل بها مهما تعددت الطرق من سفح الجبل إلى القمة.

ثانياً: المدرسة هي خط الدفاع الثاني بعد البيت، وأحياناً تصبح خط الدفاع الأول حين لا يقوم المنزل بدوره المطلوب في زرع القيم، ومنها فضيلة الصدق. حين تستهين منظومة التعليم بالكذب، وتسمح بالغش فإنها ترسم الطريق للطالب ليصبح كذلك بعد تخرجه، وقد يكون معلماً أو طبيباً أو قاضياً، وكلما كانت الوظيفة أكبر كان الضرر أكثر. وفي كليات الغرب العسكرية مثل كرانول وسنت هيرست في المملكة المتحدة، وفي أكاديميات القوات الجوية والبرية في أميركا يتولى الطلبة محاكمة زميلهم حين يرتكب ما يستوجب ذلك، وقد يتم فصله من الكلية لو تبين أنه يكذب في إفادته أو في دفاعه عن نفسه.

من المهم أن تضمن المناهج الدراسية وبالأخص المقررات الدينية كل القيم التي نرغب في زرعها لدى الطلبة، وأن يكون الصدق من أهمها.

ثالثاً: خطب الجمعة تعد فرصة لا تعوض لتهذيب أخلاق المسلم وزرع القيم التي تميزه عن غيره. ولكن حتى اليوم لا تزال الكثير من خطب الجمعة مكررة، وتركز على عبادات معينة وتنسى المعاملات التي هي الأهم، وهي التي يجب أن تميز المسلم من غيره، ولنتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

أتمنى أن يأتي يوم يردد فيه العالم: "المسلم لا يكذب" وما أجملها من عبارة.