بينما كنت أحضر إحدى الجلسات النقاشية ضمن فعاليات مؤتمر مرموق، جذبني حديث جانبي مع أحد الحضور عن مفهوم القيادة، كان يتحدث بحماس عميق وبساطة آسرة، فتسللت كلماته إلى ذهني كفكرة تستحق التأمل ،وجدت نفسي أسترسل في التفكير وأعود لأقول: "القائد الحقيقي في أي مجال، هو من يرى في كل تغيير فرصة، وفي كل أزمة إمكانيات تنتظر أن تُستغل"، من ثم دفعتني عبارتي هذه للتساؤل: كيف يمكن للقيادة أن تتجاوز حدود إدارة الأزمات اليومية؟ وكيف تتحول إلى نهج استباقي يُمكنها من تحويل التحديات إلى مسارات جديدة للنمو والابتكار؟<br /><br />مع انتهاء الجلسة، شعرت بأن الإلهام الذي تولد من تلك المناقشات قد دفعني للتفكير بعمق أكبر حول مفهوم القيادة الاستباقية ،هذا الإلهام شجعني على كتابة هذه المقالة، حيث رأيت أن عالمنا المتغير بوتيرة غير مسبوقة يفرض تحديات متنوعة على المؤسسات في القطاعين العام والخاص، من التحولات الاقتصادية والتكنولوجية إلى التغيرات الاجتماعية، أدركت أن القيادة الاستباقية ليست مجرد وسيلة للتكيف مع المتغيرات، بل هي نهج يتيح استشراف المستقبل وصياغة حلول مبتكرة تدعم التنمية وتخلق فرصًا جديدة للنمو.<br /><br />القيادة الاستباقية تعني القدرة على قراءة الاتجاهات وتحليل المعطيات لاستباق الأحداث بدلاً من انتظارها، إنها رؤية تحول العقبات إلى محفزات للابتكار،على سبيل المثال، عندما تواجه شركة تحديات اقتصادية مثل تقلص الأسواق، قد يرى القائد الاستباقي في ذلك فرصة لإعادة هيكلة العمليات، وتطوير منتجات مبتكرة، أو التوسع في أسواق جديدة، في المقابل، قد تواجه مؤسسة من القطاع العام أزمة في الخدمات الأساسية، إلا أن القيادة الاستباقية يمكن أن تستثمر الأزمة لتبني حلول تقنية أو تطوير البنية التحتية لتحقيق تحسينات دائمة.<br /><br />ولا يمكن الحديث عن القيادة الاستباقية دون التوقف عند سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي يجسد أفضل مثال للقائد الاستباقي، فبرؤيته الثاقبة وإرادته الطموحة، قاد المملكة إلى آفاق جديدة من التنمية من خلال رؤية المملكة 2030، وهذه الرؤية ليست مجرد خطة اقتصادية، بل نموذجاً متكاملاً لتحويل التحديات إلى فرص، مثل تنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط عبر إطلاق مشاريع كبرى، تمثل قفزات نوعية في الابتكار والاستدامة، كما قاد الأمير محمد بن سلمان جهوداً استباقية لتسريع التحول الرقمي ودعم الاقتصاد الوطني، مما جعل المملكة نموذجاً يُحتذى به في التكيف مع المتغيرات.<br /><br />وعلى مستوى المنطقة الشرقية وفي ذات السياق، يمكنني الاستشهاد بأحد الأمثلة العملية على القيادة الاستباقية في المنطقة، وهو طريق الملك فهد بالدمام، هذا الطريق الرئيسي والمهم في المنطقة يمثل تحدياً تخطيطياً كبيراً، لكن الزملاء في هيئة تطوير المنطقة الشرقية، بالتعاون مع الأمانة والقطاع الخاص، يسعون حالياً لتحويل هذه المشكلة إلى فرصة تتجاوز مجرد حل المعضلة،ليكون الهدف هو إنشاء مشروع نوعي ومتفرد يحول الطريق وما حوله إلى مكان يشع بالحياة والجمال والجودة،هذا المثال يعكس بوضوح كيف يمكن تحويل التحديات إلى إنجازات تعزز جودة الحياة وتقدم حلولاً مبتكرة.<br />كما تتجلى أهمية القيادة الاستباقية بوضوح في دعم الاقتصاد وتعزيز الكفاءة داخل المؤسسات، ففي الشركات، تُسهم في توجيه الاستثمارات نحو القطاعات الواعدة مثل الابتكار الرقمي أو الطاقة المستدامة، وفي القطاعات الحكومية، تساهم القيادة الاستباقية في تصميم سياسات تستبق التحولات الاجتماعية، مثل مواجهة التغيرات الديموغرافية أو تحسين فرص العمل للشباب، مما يدعم أهداف التنمية الاجتماعية.<br /><br />هذا النوع من القيادة لا يتوقف عند حدود التخطيط بل يتعداها إلى اتخاذ قرارات مدروسة وسريعة مبنية على التحليل الدقيق، القادة الاستباقيون في القطاعات العامة والخاصة يعملون على تعزيز بيئات العمل، وبناء فرق تدفع بالابتكار وتحقق الأهداف المشتركة بكفاءة.<br /><br />في الختام، القيادة الاستباقية ليست رفاهية بل ضرورة في كل قطاع، سواء كان هذا القائد يدير شركة خاصة، أو مستشفى، أو جهة عامة، فإن استشراف المستقبل وتحويل التحديات إلى فرص هو ما يميز القادة الفاعلين، التحديات ستكون دائمًا جزءًا من الواقع، ولكن الفرق يكمن في كيفية استجابتنا لها، فالقائد الذي يرى في الأزمات إمكانيات، ويحوّلها إلى إنجازات، هو القائد الذي يُسهم في بناء مستقبل مزدهر ومستدام.