<br /><br />لعل كثير منكم يا سادتي يتفق تماماً مع ما ذهب إليه عبقري الرواية العربية الطيب صالح، طيب الله ثراه، حينما كتب في إحدى مقالاته قائلا "لا أظن أحداً ينسى الأماكن التي صام فيها، وهل كان الفصل صيفاً أم شتاءً، وبماذا أفطر ومع من أفطر، وهو قد ينسى بقية أيام العام باستثناء أيام قليلة، تباغته فيها الحياة، كما تفعل بإحدى مفاجآتها السارة أو المحزنة".<br /><br />كانت تلك رحلتي إلي الجنوب، وتصادف أن رمضان أدركني بمدينة نجران، هذه أول مرة أصوم خارج بلدي، ولا أدري كيف يكون رمضان هنا، عساه لا يكون صعباً.<br /><br />المهم يا سادتي أني كنت قد وصلت نجران، والتقيت بمضيفي الكريم، الذي حشد جمعا غفيرا من أصدقاءه للإفطار معنا، ولما اقتربت اللحظة الحاسمة، أنفجر فينا الفرح عند سماع صوت آذان المغرب، ما أجمله من صوت، هذا الذي يبشر بالفرج والإذن بالإفطار والأكل والشرب، فالإفطار أول يوم كأنما هو احتفال جماعي، واقرار منا بعبوديتنا لله، اقرار بألوهيته المطلقة علينا جميعا، وبسرمديته التي لا تنتهي في بقاءه، وفي جوده، وفي قوته، وفي قدرته، وفي كرمه، وفي عزته، وإننا ندين له بالسمع والطاعة، فهو صاحب المنح الجزيلة والعطايا الغزيرة، وهو المعبود بحق، وهو الذي جعل للإيمان حلاوة، وللطاعة طعم، وللصائم فرحة.<br /><br />وأتذكر أنه بعد التمرات الأولي وجرعة الماء، جيء بالأكل، على صواني كبيرة، وتذوقت طعاما لذيذاً، لا يمكنني نسيان طعمه الشهي، قيل لي أنه يسمى الرقش أو مدهن الرقش، وأنه يعتبر سيد المائدة مع الفطائر طوال الشهر الكريم.<br /><br />وبينما نحن نفطر، لاحظت أنهم يحبون اللحم، ومن منا لا يحبه، نحن في السودان نحب اللحم أيضا، ونقول إن أجمل الطعام ما كان لحما، وأجمل اللحم ما جاور عظما.<br /><br />وبعد أن افطرنا قمنا للصلاة فقدم الحاضرون إماماً، وجلسنا بعدها نشرب الشاي ونحتسي القهوة مع الرطب.<br /><br />لعمري أن رمضان عندنا في السودان، يبدو صعبا ومختلفا بعض الشيء، أتصوره كرحلة شاقة، نوع من المكابدة، فالجوع والظمأ يختلطون فيه معاً بغيظ الصيف الحار، الذي لا يحتمل، ويكون هَمّ الصائم أن يقضى ساعات النهار الطوال في حماة الصيف وانقطاع الكهرباء، في تسبيح وترقب وتشوق للحظة التي يسمع فيها الآذان، "فإذا أنقضي اليوم، يحس الصائم أنه قطع شوطاً مهماً في رحلة حياته، وإذا انقضى الشهر بطوله، يشعر حقاً أنه يودع ضيفاً عزيزاً طيب الصحبة، ولكنه عسير المراس".<br /><br />وأتذكر جيدا، كيف كان الناس يتحلقون في جماعة للإفطار بالشارع، حتي إذا ما كان هنالك عابر سبيل حلف الناس عليه وأقسموا أن يجلس ويفطر معهم.<br /><br />وكنا كصبية في ذلك الوقت نجد متعة كبيرة في الإفطار بالشارع مع آبائنا وجيراننا وكبارنا، حيث توجد أصناف متعددة من المأكولات اللذيذة والمشروبات الباردة، فالكل يأتي بطعام من بيته ويتشاركه مع الجميع.<br /><br />إنني أذكر بوضوح رمضانات صمتها عند أهلي في السودان، لكن لن أنسي كذلك الرمضان الذي صمته بنجران، وأتذكر كيف أن الليل كان يرخى سدوله على مدينة نجران الهادئة في وقار، وذات مرة بينما أنا مستلقي على السرير، أمكنني رؤية السماء بسهولة، وتذكرت علي حين غرة، تلك اللحظة الرمضانية المدهشة، والأصدقاء يتجمعون حولي للإفطار، وعلى امتداد البصر، كنت أرى مئات النجوم تتألق في السماء، والريح رخاء، والنار موقدة، وتحدثت إلى نفسي حينها، ومنيتها برمضان آخر، أقضيه في نجران الحبيبة مع الأصدقاء، ليت شعري، فرمضان هنا له طعم غير، لا أدري كيف أصفه، لعله خليط بين الفرح والرضا، فقد كفتني هذه الصحبة الطيبة من الأصدقاء عن الدنيا، فلم أحس بغربة، بل أحسست بدفء العشيرة والأهل بينهم، أحسست بأنها بلدي وهم ناسي، قلت لهم أنتم أناس طيبون، تسهل الفتكم، وتستطاب صحبتكم، وأحب أن أبقى معكم أطول وقت ممكن، لو كان بيدي، لكن عليَ أن أمضى لحالي، وأن أغذي السير، وأعود أدراجي للرياض، فلدي التزامات يجب أن أوفيها، الآن أدرك بذهني أن أجمل ما في الحياة هو صحبة أولئك الأحباب الكرام.<br /><br />وتوقفت قليلاً لحظة وداع أصدقائي، وتمهلت وأنا أستمرئ ذلك الإحساس العذب، في تلك اللحظة المضطربة، المشحونة بالشجن والحزن، لكن يملأ قلبي الاطمئنان، فثمة أمل في اللقاء، من يدري؟، لعله يكون قريباً.