<br />حين نتحدث عن العقل يقفز إلى أذهاننا مباشرة ذلك العضو المعقد الذي يتوارى في غياهب الجمجمة، ماذا لو وسعنا هذا المفهوم قليلاً، وتساءلنا: هل يمكن للأصابع أن تمتلك عقلاً؟ وهل يمكن أن يكون لها صوت ليس بالمعنى الحسي للكلام، بل بلغة أخرى تُفهم عبر أثرها؟<br />في الفلسفة المعاصرة، لم يعد يُنظر للعقل على أنه محصور في الدماغ فقط. فالفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو- بونتي تحدث عن «الجسد المُفكر» في كتابه فينومينولوجيا الإدراك، مشيراً إلى أن الإدراك الحسي ليس مجرد انعكاس عقلي بحت، بل تجربة جسدية كاملة والجسد لا ينفصل عن التفكير فهو يعيش التجربة ويخزنها ويتفاعل معها، من هذا المنطلق يمكن القول إن الأصابع ليست مجرد أدوات تنفيذية للعقل بل امتداد له تحمل ذاكرته وتعبّر عن خبراته بطرق تفوق الإدراك اللفظي. تأمل في عازف البيانو الذي يعزف مقطوعة معقدة دون أن يفكر بوعي في كل نغمة أصابعه تعرف طريقها عبر المفاتيح كما لو كان لها عقل خاص، تستجيب للموسيقى المخزونة في أعماقه دون الحاجة لتوجيه واعٍ قد يُقال إن هذا نتيجة الذاكرة العضلية.<br />المسألة أعمق من ذلك إنها ليست ذاكرة بمفهومها الشائع بل ذكاء متجسد في حركة الأصابع وهي تعرف الإيقاع وتشعر باللحن، وتخلق الجمال دون أن يمر كل ذلك بتحليل منطقي تقليدي. في عالم آخر، هناك الجراح الذي يقف على حافة الخطر، يفتح جسداً بشرياً بدقة مذهلة وفي تلك اللحظة الحرجة لا يتحرك وفق خطة ذهنية ثابتة، بل تسبق أصابعه تفكيره الواعي، وكأن لديها وعياً خاصاً بها، تعرف أين تذهب وكيف تتفادى الخطر وكذلك هناك الرسام الذي تنساب فرشاته فوق القماش كأنها تترجم لغة غير مرئية قادمة من أعماقه.<br />أما عن صوت الأصابع فهو ليس الصوت المسموع الذي نعرفه، بل الصوت الذي يُفهم عبر الأثر. الأصابع تتحدث بلغتها الخاصة، توقيع صغير على ورقة يمكنه تغيير مصير أمة، لمسة حانية قد تشفي جرحاً غائراً في القلب، ضغط على زناد ينهي حياة في لحظة. كل فعل من هذه الأفعال هو صوت، رسالة تحمل معنى يفوق قدرة اللغة على الوصف. تحدث الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عن فكرة «الحضور والكشف» حيث يرى أن الأشياء تتحدث إلينا من خلال وجودها وأثرها، لا من خلال كلماتها. الأصابع كذلك تكشف عن دواخلنا من خلال ما تصنعه. الخط الذي يخطه الكاتب ليس مجرد حبر على ورق، بل هو صدى لصوت داخلي يتجسد عبر حركة الأصابع. إنها تنطق بما لا يستطيع اللسان قوله، وتبوح بما يعجز عنه الفكر المنطقي. تأمل في أعمال النحات ميكيلانجيلو، كيف تنبض تماثيله بالحياة من خلال تفاصيل دقيقة منحوتة بأطراف أصابعه. هذه الأصابع لم تكن مجرد أداة لقد كانت الناطقة باسم روحه. كل شق، كل ملمس، هو صوت فني وفكري، يُفهم عبر الحواس قبل أن يُترجم بالكلمات.<br />عقل الأصابع وصوتها ليسا استعارتين بل حقيقتين فلسفيتين عميقتين. الأصابع تفكر حين تتجاوز كونها أداة لتنفيذ الأوامر وتصبح شريكاً في عملية الإدراك والإبداع. وهي تتحدث حين تترك أثرا يُفهم بعمق، دون الحاجة لأن يُفسر بالكلام. الأصابع ليست امتداد للجسد فقط إنما هي جزء من الروح، تحمل ذاكرة خفية عن كل لمسة وكل فعل، تشارك في صنع التاريخ، وفي خلق الفن، وفي اتخاذ قرارات مصيرية.<br />لعل أعظم ما تكشفه لنا الأصابع هو أن الأثر قد يكون أصدق من القول، وأن للصمت أصواتاً لا يسمعها إلا من يعرف كيف يُصغي للأشياء بما وراء ظاهرها.<br /><a href="https://x.com/malarab1" target="_blank">@malarab1</a>