<br />أول مرة اسمع يا سادتي عن جبل طويق، كانت منذ فترة قريبة، من خلال إحدى حلقات برنامج على خطي العرب، أما المرة الثانية فكان لدي موعد هام أردت اللحاق به، والموعد في أقصى شرق الرياض، وأنا في غربها كنت، أي أنها رحلة طويلة وممتدة، فقررت أخذ المترو، كسباً للوقت، وتصادف أن المحطة اسمها طويق.<br />كانت رحلة طويلة ومهيبة، ومترو الرياض ضخم ويغطي أحياء كثيرة جدا وبعض خطوطه متوازية ومتقاطعة، وظننت أنني قد أحتاج لدليل أو رفقة في رحلتي تلك، رغم أنني ركبت قطارات مترو كثيرة، مثل مترو مدينة كييف بأوكرانيا، ومترو القاهرة، وبالأخير تجاسرت وأخذت المترو كوسيلة مواصلات سريعة، وغير مكلفة بالنسبة لهذا المشوار الطويل.<br />ولن أنسي أبداً، ذلك التوجيه والإرشاد المشوب بالود، الذي حظيت به من قبل العاملين بمترو الرياض، فلولاهم ما تكللت رحلتي بالنجاح، وضمنت وصولاً سريعاً ومريحاً، فيا له من مشروع عصري مذهل، هذا المترو.<br />وعلى ذكر القطارات، تذكرت أول قطار ركبته في حياتي، كان ذلك منذ زمن بعيد، فقد كان القطار عندنا في تلك الأيام هو الوسيلة الوحيدة، التي تغطي القطر الكبير مترامي الأطراف، السودان، على أن القطار في ذلك الوقت كان يضرب به المثل، في دقة مواعيده، حتي أن الذي يعمل بهيئة السكة حديد يشار اليه بالبنان.<br />أذكر ذات مرة، كنا عائدين إلى الخرطوم، من مدينة بشمال السودان بالقطار، اذ قضينا إجازتنا مع الأهل، في تلك الجزيرة الصغيرة عند منحني النيل، ذات الطبيعة الساحرة، والجمال الخلاب، التي تنبسط على أرضها الخصبة، حقول القمح والفول والبرسيم الأخضر، وتظللها غابات النخل وأشجار المنجا، وأتذكر أنه كان لدينا بعض نخلات خارج فناء الدار، وقد تجاوز ارتفاع الواحد منها الثلاثين متراً، وكنت أخاف أن تأتي هبوب عاصفة وتسقط بعضها، وأحيانا كنت أتأملها وأقول في نفسي، لا بد أن عمر هذه النخلات مديد، ورغم ذلك ما زالت تثمر.<br />كما أتذكر جيداً طعم «الزوادة»، وهي الزاد الذي يحمله المسافر معه، وكان عبارة عن قراصة مصنوعة من التمر المخلوط بالدقيق، وبجانبها صنعت لنا جدتي قالب كيك، وغلفته بورق الجرائد، ووضعتها داخل كرتونة صغيرة، وكانت تلك عادة أن يأخذ المسافر معه هذه الزوادة، لأن السفر يستمر لأكثر من يومين.<br />وأتذكر من كثر تشبع الكيكة بالسمن، نفذت رائحتها خارج تلك الكرتونة، وكان يمكن شمها من مسافة بعيدة، لعمري أعجز تماماً عن وصف تلك الرائحة المغرية، أو نسيان ذلك الطعم الشهي، فكلما تذكرت ذلك ازددت حيرة.<br />وفيما بعد حصلت على التفسير، إذ قالت أحدى النسوة الكبار بقريتنا، أن السمن عندنا يستخرج من حليب الأبقار، التي ترعى البرسيم والقصب والعشب الأخضر، والتربة خصبة وغنية، ومستعدة للعطاء، متى القمتها البذور وسقيتها الماء، أما البيض فهو يؤخذ من الدجاج البلدي، الذي يلتقط ما يجده في تلك الحقول، والقمح كذلك مزروع عندنا، ولم تكن تفصل مكوناته إلى غلوتين ونشا، مثل ما يحدث اليوم، بل كانت حبة القمح تطحن كاملة، ولعل هذه المكونات مجتمعة معاً، هي التي تعطي ذلك الطعم الفريد، حتى الشاي باللبن - لو تذكر كان له طعم أخر تلك الأيام -، فقد كانت الدنيا بخير، ثم نظرت تلك السيدة إليّ نظرة لم أفهم معناها وقتها، وقالت «وما زالت الدنيا بخير كحالها لم تتغير»، ولعلها كانت تريد أن تقول، ليت الزمان بقي على سابق عهده، أما المرة الثالثة يا سادتي، فقد قرأت مقال صحفي عن أحد الباحثين المصريين.<br />لكن أكثر ما أعجبني حقاً هو تشبيه، سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله -، حينما قال: «همة السعوديين مثل جبل طويق، ولن تنكسر إلا إذا انهد هذا الجبل وتساوى بالأرض».<br />حقاً لطالما كان طويق قوياً وشاهداً، على التاريخ العريق، لمنطقة اليمامة ونجد، وكيف كانت «يوم بدينا»، فهذا الجبل العتيق يذكرنا، بقوة وصلابة الأجداد في سالف الزمان وقابِل الأيّام، وبهمة السعوديين الشامخة، التي لا تنثي أبداً، -بإذن الله -، كما سيظل طويق واقفاً بعزة وإباء، في وجه الريح والأعادي، وسيبقي حاضراً، ليروي قصة تمدد الرياض، وملحمة تطورها وازدهارها، تلك التي لا يمكن أن تخطئها العين.<br />