<br /><br /><br />جئت إلى الرياض يا سادتي، أحمل معي رسائل الأشواق والترحاب والودِ، لعلي أتشاركها معكم، فذلك شرف أتطلع اليه، وتهفو اليه نفسي، بلا شك، وكنت قد نزلت أول ما وصلت، في حي الفيحاء الأنيق، وهو فعلاً أسم على مسمى، ثم انتقلت لاحقاً إلى "ظهرة لبن"، غرب الرياض، ذلك الحي الجميل الهادي، الذي يشبه حي المعادي بقاهرة المعز.<br />ففي طفولتي البعيدة، أتذكر أنني طالعت معظم روايات المغامرون الخمسة، ومنها لغز فيلا المعادي، وقد شحذت خيالي تلك الروايات والقصص، وترسخت في ذهني صورة جميلة عن المعادي، ذلك الحي الهادي على ضفاف النيل، الذي لم أكن قد زرته في ذلك الوقت البعيد.<br /><br />أما ظهرة لبن فقد زرتها، وأنخت بها بعيري، وحططت بها رحلي، وطاب لي فيها المقام، ولعل حالي عندها كما قال الشاعر: "وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري"، إذ هي بحق حي هادئ وجميل، فهوائها المتجدد الصافي، قد راق لي، ولعلها تشبه كثيراً مكان أثيراً، استوطن روحي منذ الأزل، فثمة روح تميز كل مكان عن غيره، ولا عَجَبٌ إذن أنني ارتحت فيها، وشعرت فيها بالاسترخاء، فالبيوت بلبن تقوم متباعدة، والشوارع متسعة ورحبة، وعموم ساكني الحي في حالهم، فلا تحس بوجودهم فيه، أو تسمع لهم صخبا، والشتاء بها رائع، ودافئ كدفء الحياة، فالحي يسكنه الهدوء طوال الوقت، وتغمره السكينة.<br />كنت في ظهرة لبن، أحب المشي عقب هطول المطر مباشرة، فهنالك دفء مشوب برائحة المطر أجده في ذلك، غير أن وقت هطول المطر عندنا يختلف، عن موعد تساقطه بلبن، فالمطر عندنا في السودان، لا ينزل إلا في الخريف.<br /><br />وعلى ذكر الخريف، تذكرت خريفاً في صبايا البعيد اختبرته بمدينة سنار، المدينة الساحرة، الواقعة على الضفة الغربية، لنهر النيل الأزرق، الرافد الأكثر إمداداً ومداً لنهر النيل، بالسودان.<br /><br />كانت تلك ليلة انشقت فيها السماء، وانهال الماء على الأرض بغضب عارم، ليس كوابل منهمر، بل كبركان تتفجر منه الحمم، وما وجد شيئا في طريقه إلا وجرفه أو أحرقه.<br /><br />وظل الماء دفاقاً ومنهمراً ليالي عداد، بلا توقف أو انقطاع إلا قليلاً، حتى ربا مستوى الماء فوق المتر، وكان هذا وحده كفيل بقتل الحيوانات الصغيرة، جزع الناس حينها أيما جزع، وظلوا يراقبون السماء بتوجس وريبة، وهم في دعاء وتضرع متصل، راجين توقف المطر، وإلا تحققت الكارثة التي يخافونها، وتلك مصيبة لا طاقة لهم بها، ولعلي لم أعي حينها فداحة الأمر جيداً، وما كابده الناس لحظتها من ألم وخوف.<br /><br />ورغم تضرع الناس، لم تكف السماء أو تغلق أبوابها المشرعة، وظل الماء منهمراً، حتى أنفجر الفيضان، وفاض النيل، نعم، "فاض النيل ذلك العام، أحد فيضاناته تلك، التي تحدث مرة كل عشرين أو ثلاثين سنة، وتصبح أساطير يحدث بها الآباء أبناءهم"، مثل ما سطر ذلك الأديب العبقري الطيب صالح في روايته الشهيرة، لكن تلك قصة أخرى.<br /><br />كنا كأطفال سعيدين بذلك الفيضان، أيما سعادة، فذلك أتاح لنا اللعب والسباحة في الماء، طوال الوقت، وكنا نأتي بأواني الغسيل العميقة، ونركب عليها كقوارب ونتسابق بها مع بقية الصبية، وأتذكر كيف كان الماء يضج بتلك القوارب الصغيرة، والأهالي يتصايحون علينا ما بين الفينة والأخرى.<br /><br />أظلمت سنار يومئذ تماماً إلا من ومضات البرق الخاطف، وهي طوال مائة عام لم تظلم، تقريبا، لكنه الخريف يا سادتي، لم يسلم حينذاك من الماء شيء، حتى الفحم والحطب، الذي يستخدم حصراً في طهي الطعام، تبلل وغمره الماء، ولم تشعل النار في المدينة الغارقة، لعدة ليالي، ولا أتذكر بالضبط ماذا كنا نأكل، في تلك الأيام الصعبة، أو على ماذا كنا نتغذى.<br /><br />المهم يا سادتي.. خلال اقامتي القصيرة بظهرة لبن، ذو الاطلالة الخلابة، تعرفت على بعض الأصدقاء من أهل لبن الكرام، وأعجبت بهم حقاً، فقلت لهم، إن جاء أحداً اليكم يوما، وقال عن حيكم أنه بعيد عن قلب الرياض النابض، فقولوا له: يكفي أنه قريب من قلب من أحب لبناً أو عاش في رحابها، أو عرف سجاياكم عن قرب، فأنتم حقاً وصدقاً قوماً أسخياء، كآبائكم وأسلافكم الذين سكنوا وادي لبن وعمروه، وصار بهم مكاناً متميزاً ينبض بالحياة.