<br />ليس كل فنجان يُرتشف لأجل الاستيقاظ، ثمة فناجين تُرتشف لأجل التذكّر، للتطهّر، للتأمل في غربة الوعي وسط صخب هذا العالم المجنون، هناك حزب لا يُنادى في المجالس ولا تُرفع له لافتات، لكنه الأكثر حضوراً والأشد تأثيراً.. إنه حزب القهوة.<br />في عمق كل رَشفة مرارة، سرٌ دفين. وكأن القهوة تُعلّم من ينتمي إليها أن الحياة ليست سكراً مذاباً في الأوهام، بل طعماً حقيقياً للمواجع المصفاة عبر النار والماء والصبر. أعضاء هذا الحزب لا يثرثرون كثيراً، لأن أفكارهم تُخمر في صمتٍ ثقيل، وتُسكب في فناجين صامتة، لا يراها العابرون إلا طقوساً، بينما هي فلسفات كاملة تُرتّل دون صوت.<br />القهوة المُرّة ليست مشروباً، بل بيان وجودي، موقف من العالم، احتجاج صامت على الابتذال، صرخة ناعمة ضد الاستهلاك المفرط لكل شيء، حتى المشاعر. إنها نفيٌ ناعمٌ للتزييف، وتأكيد عميق على أن الصدق قد يكون بلا طلاء، بلا إضافات، بلا مجاملة... فقط كما هو: مرّ، صادق، صافٍ. ينتمي لحزب القهوة المُرّة كل أولئك الذين فهموا أن الجمال لا يُقاس بالسهولة، وأن الفهم لا يُولد في ضوضاء الحلوى، بل في عمق المذاق الذي يشبه التجربة، يشبه الانكسارات المتكررة، يشبه لحظة الانتباه حين يُسدل الزمن ستاراً على المسرحية السابقة، ويطلب منك أن تعيد كتابة المشهد من جديد.. ولكن بوعيٍ أشد.<br />هذا الحزب لا يسعى إلى السلطة، لا يطلب الأغلبية، بل يتعمد أن يكون نادراً، متفرداً، نخبوياً بطريقته الروحية. أفراده لا يلبسون أقنعة ولا يزايدون، إنهم يعرفون أن الصمت أحياناً أبلغ من الخطابة، وأن فنجاناً من القهوة المُرّة عند الفجر يعادل خطبةً عن معنى الحياة، ويهزم ألف مؤتمر عن التوازن النفسي. هم من يذوقون الواقع دون مرشحات، من يتعاملون مع الألم كجزء من المعادلة، لا كخطيئة يجب إنكارها. إنهم لا يخافون من النظر في المرآة، ولو رأوا تجاعيد الحكمة على أرواحهم. إنهم لا يُزيّنون الكلمات، لأنهم أدركوا أن الحقيقة، حتى وإن كانت خشنة، تُحرر أكثر من أكاذيب ناعمة.<br />حزب القهوة المُرّة، هو الثورة الصامتة التي لا تحتاج إلى شعارات، بل تحتاج إلى بصيرة. أولئك الذين ينتمون إليه، قد لا يتفقون على كل شيء، لكنهم يشتركون في فهم أن العمق لا يُستهلك، وأن الحياة ليست حفلة سكر، بل طقس تأمل مستمر، وأن كل فنجان مرّ هو درس في كيف نكون أكثر اتزاناً، كيف لا نخدع أنفسنا بالحلاوة المؤقتة، كيف نحيا دون أن نُغرق أرواحنا في مساحيق الاصطناع. لذلك، إذا جلست مع أحد أعضاء هذا الحزب، فلن يحدثك كثيراً، لكنه سيقدّم لك فنجاناً من القهوة المُرّة. وإن استطعت أن تشربه دون أن تبحث عن سكر، فقد بدأت أول خطوة في طقوس الانتماء.<br />لأنّ الفهم يبدأ عندما نكفّ عن البحث عن المذاق المريح، ونبدأ في تذوق الحياة كما هي، بكل تناقضاتها ونكهتها الحقيقية. إنه حزب لا يعِدك بشيء، لا مستقبل زاهر، ولا جنة مزيفة.. فقط يضع أمامك فنجاناً ، ويتركك تفكر: هل أنت مستعد أن ترى الأشياء كما هي؟ إذا كانت إجابتك: نعم. مرحباً بك.. لقد أصبحت منّا.<br />DrAlghamdiMH@