<br />من ضمن أماكن كثيرة في العالم تمنيت زيارتها، كانت حائل، لعل ما سمعته عنها، من عذب الحديث وحلو السِيَر؛ مدعاة ذلك، أو علها تلك السجايا، التي يتصف بها أهلها الاسخياء، أو لربما يعود ذلك لطبيعتها الخلابة الآسرة، من جبال ووديان وكثبان وسهول خضراء تبهج مآقي الناظرين.<br />فحائل دائما ما يذكر معها، الكرم والمرؤة والنخوة، فأهلها مضيافون للغاية، يحبون القِرى كما يقال، ولقد رأيت ذلك بنفسي، ولا عجب أن منهم وفيهم حاتم الطائي، ومن منّا لا يعرف ذلك الرجل الكريم.<br />أتذكر بوضح، أول مرة سمعت فيها عن حائل، كان ذلك منذ أمد بعيد، فقد كانت أوكرانيا خارجة من وطأة العهد السوفيتي، آنذاك وسمح لنا وقتها، بالتجول والسكن خارج المدينة الجامعية، وركبت المترو في مساء رأس السنة، قاصدا زيارة صديق، فقد كنت أشعر بالسأم وأحس بالوحدة، تمشيت قليلا في شارع الخرشاتك بوسط مدينة كييف، الذي يشبه بازار مفتوحاً، ومصابيح الكهرباء تتوهج فيه ليلاً، وتزيد في جماله بألوانها الزاهية المتقدة، ثم عبرت نهر الدنيبر الي الضفة الأخرى من كييف.<br />كانت تلك ليلة دافئة، من ليالي العاصمة كييف، فدرجة الحرارة - غير هذه الليلة، عادة ما تهبط إلى سالب عشرة وأكثر، ونتف الثلج ما تلبث تتساقط عليها بكثافة، طوال ليالي الشتاء القاسية، وكنت قد ركبت المترو على غير هدى مني، ونزلت في آخر محطة، وكان الرصيف خاليا إلا من بعض المخمورين، وبعض الفتية المراهقين الذين اشتبكوا معي، وأرادوا سلب البالطو الذي أرتديه.<br />وفجأة ظهر شاب، بدأ لي أنه عربي، فزع معي، وتفرق المشتبكون وتواروا عن الأنظار، وحمدت الله ثم شكرت هذا الشاب على بسالته ودفاعه عني، فقال كل منّا يفعل ما بوسعه، وعلى هذا النحو تعرفت عليه، وأخبرني أنه سعودي من حائل، لكن أسرته استقرت منذ وقت طويل في الكويت، كانت تلك أول مرة أسمع فيها عن حائل، وأعجب بأحد فرسانها الشجعان، الذي جشم نفسه مشقة التعلم في هذه الأجواء الباردة، وتصادقت معه لاحقا، وحكى لي الكثير عن حائل، ما غذا فيني الرغبة في زيارتها، فهي نعمة الدار، كما يقول ولقد صدق.<br />وعليه لم يكن غريباً، أن أعجب بحائل، فحائل بلد جميل، والعيش فيها رغيد، وأهلها كرام، ولابد أنها راقت لكل من زارها أو مر بها، ولا غرو إذا أنها أعجبت من قبل، فحول الشعر العربي، وجهابذة اللغة، مثل طرفة بن العبد، وامرؤ القيس، وعمرو بن أبي سُلمى، الذي أنشد في الكرم أبياتاً، لا تدانيها أشعار أخري:<br />تَراهُ إِذا ما جئتهُ مُتَهَلِّلاً<br />كَأَنَّكَ مُعطيهِ الَّذي أَنتَ سائِلُه<br />كَريمٌ إِذا جِئت لِلعُرفِ طالِباً<br />حَباكَ بِما تَحنو عَلَيهِ أَنامِلُه<br />وَلَو لَم يَكُن في كَفِّهِ غَيرُ نَفسِهُ<br />لَجادَ بِها فَليَتَّقِ اللَّهَ سائِلُه<br />أتذكر مرة حدثني صديق، أنه كان في زيارة صديق له بحائل، فلما وصل إلى حائل، لم يستدل على العنوان الذي يقصده، وقال له رجل التقاه صدفة، تعالي معي أوصلك لمبتغاك، وذهبا معا، وأدخله ذلك الرجل بيته، وضيفه وزاد في لإكرامه، ولما فرغ من ضيافته، أخده بعدها إلى مقصده.<br />حقاً لقد بلغ حاتم الطائي في فضيلة الكرم والجود، مكانا عظيما، لا يدانيه فيه أحد، إلا قليلاً، حتى صار مضرب الأمثال في البذل والعطاء، الذي لا يخشى بعده فقراً.<br />ولا بد أن حاتم الطائي قد ورّث هذا الخلق الكريم لأهل حائل جميعهم، وصار الجود مثبت ومتغلغل في جيناتهم المتوارثة، وعليه فمن الأرجح أن تكون كل حائل، قد أضحت حاتم الطائي، فالرجل كما تعلمون يا سادتي من حائل، وقبره بها.<br />فعذراً إن حالت بيننا الأيام، يا مدينة الكرم ويا واحة الجود، ويا عرين الرجال، ويا مصنع الأخيار، فقد أسرتني الرياض بحبها، وشغلتني بحُسنها، وأخذتني من نفسي، وصرت متيماً بها، لكن عسى الله يرزقني زيارتك قريباً، إذ أني أتوق بشدة إلى عظيم لقاك.