وما هي الخيوط الداخلية والخارجية لفهم عقلاني للأحداث المتسارعة ولخفاياها وخلفياتها؟
لسورية (كما يكتبها السوريون) مكانة خاصة عند عموم التونسيين لذا ترى هذا الاهتمام الواسع المتقاسم بين الفرح والحذر والتخوف ..
لقد جاء بعضهم بالأجوبة، ولكننا نعتقد أن زمن الاجوبة لم يحن بعد ولن يحن دون طرح الأسئلة، كل الأسئلة، بما فيها تلك التي لا ترضينا وتخرجنا من دائرة رفاهنا.
مشاهد الفرح لسقوط نظام دكتاتوري دموي حقيقية ومؤثرة تلك الشهادات من عذابات وآلام الناس داخل السجون والمعتقلات وخارجها..من يمكنه ألا يتأثر لمثل هذه الفظاعات وأن يرى لها اي نوع من أنواع التبرير وألا يشمئز منها وألا يثور عليها؟
ومن نحن حتى نشكك في كل هذه الروايات المتواترة منذ عقود والتي تجد اليوم اثارها المادية على الأجسام والأرواح؟
ولكن نظام بشار الاسد لم يكن فقط نظاما دكتاتوريا دمويا .. لكن كان كذلك يلعب دورا ايجابيا في محور مقاومة الحلف الصهيوني حسب امكاناته وقدراته كما كان الحال من قبله لنظامي عبد الناصر وصدّام حسين ..
ومقاومة هذه الانظمة للإستراتيجية الصهيونية في المنطقة ليس وهما او حيلة للبقاء في الحكم .. فكم هي كثيرة حيل البقاء في الحكم دون التعرض لشراسة الآلة الصهيونية.. فبسقوط نظام بشار الاسد تلقت مقاومة الاحتلال الصهيوني في لبنان وفي فلسطين ضربة كبيرة قد تجد صعوبات جمة لتجاوزها ..
ولكن لماذا كانت كل النظم التي تريد مقاومة المشروع الصهيوني والمنطلقة من الايديولوجية القومية العربية في مظهريها البعثي (سوريا والعراق) والناصري (مصر وليبيا والى حد ما يمن علي عبد الله صالح) كلها نظم استبدادية مخابراتية وأحيانا دموية مجنونة ؟ فهل يقتضي تحرير الاوطان سجن الانسان والدوس على حريته وكرامته؟ هل ترى حصل كل ذلك لان هذه النظم مهوسة بنظرية المؤامرة وترى في كل نفس مختلف خطرا على الامن القومي ومؤامرة صهيونية امبرايالية؟
ام لأن هذه النظم قامت على عقيدة امنية تستبعد المواطنة ولا تؤمن بالتعدد والاختلاف فخلقت تبعا لذلك شبكة زبونية مافيوزية ترى في كل معارضة تهديدا مباشرا لنفوذها ولمصالحها وان وحده قمع المعارضين والتنكيل بهم وبعائلاتهم وبكل ما يعتقد انه من الموالين لهم هو السبيل الوحيد لاستمرارية النظم التي تحميهم وترعاهم ..
ترى ألم تكن النظم السياسية المنفتحة هي الاقدر من غيرها على حماية جذوة المقاومة وتطوريها؟
النظم المطبعة ليست افضل حال ديمقراطيا ولكنها للإنصاف في الاغلب الأعم اقل دموية ..
والحال أن النظم السياسية المنفتحة هي التي كان بإمكانها رفع راية مقاومة المشروع الصهيوني ، وعندها لم نكن نحتاج لدعم ايراني أو روسي او غيره ..
ترى لو سعى بشار الاسد ، منذ البداية، الى الانفتاح على مكونات المجتمع السوري والى رفع قبضة المخابرات والى التفاوض بدل التفجير والحرب، ألم يكن نظامه أسلم وأصوب ولكن يبدو وأننا نطلب المستحيل فكل نظام قائم على زعيم واحد ملهم مؤبد لا يمكن له البتة ان ينفتح فما بالك بأن يؤسس لديمقراطية فعلية .. فالزعيم الملهم والديمقراطية خطّان مستويان لا يلتقيان أبدا..
لقد كانت سوريا (وبلاد الشام بصفة أعم) أحد أهم مراكز النهضة العربية فكريا وسياسيا وأدبيا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر .. وفيها بالأساس تطورت فكرة القومية العربية باعتبارها رابطة مواطنية قائمة على المساواة بغض النظر على الانتماءات الاثنية أو الدينية وأنها مدخل أساسي لحداثة العرب بعد عصور الانحطاط..
ولكن عندما وصلت هذه الحركات الى الحكم في مجتمعات متعددة الاثنيات والأديان كسوريا والعراق مثلا) تحولت الى نظم طائفية فاشستية وأصبح الولاء الطائفي عندها مقدم على الرابطة الوطنية فانتقلنا من طائفية تقليدية إلى طائفية سياسية تحميها الدولة وتنافح عنها المخابرات وتفتح السجون على مصراعيها لمن يعاديها اما باسم المواطنة او باسم الدفاع عن الطوائف الاخرى ان تحول القومية العلمانية البعثية الى نظم طائفية قمعية يعد من اكبر هزائم الحداثة العربية.
لقد افرزت هذه السنوات الاخيرة في منطقتنا العربية حقيقة لا نريد ان نستنتج كل استتباعاتها وهي ان التعددية الفكرية والسياسية الحقيقية عند كل النخب العربية تخفي استقطابا ثنائيا مدمرا فإما النظم القائمة – مع بعض التعديلات _ او القوى الاسلاموية – مع مختلف تنوعاتها – وكأن الحداثة العربية على امتداد اكثر من قرن ونصف عجزت على انتاج قوى سياسية جماهيرية وديمقراطية وهذه هي الهزيمة الكبرى للحداثة العربية.
السقوط المدوي والسريع لبشار الأسد يطرح أيضا سؤال السيادة والطرق السالكة المؤدية إليها والتحالفات – الضرورية – أحيانا التي قد تضعفها أو تقويها..
ما يحدث الآن في سوريا ليس مسألة سورية فقط.. لأنه يكشف هشاشة أحلامنا وهشاشة أوطاننا وهوان الإنسان عندنا.
(يتبع)
في عدد قادم:
II- ما بين طائفية الداخل وتحالفات الخارج