التهجير القسري المقدس

دعك من المقولة الشهيرة المنسوبة للأسقف ،دزموند توتو ، ذاك المناضل السلمي المناهض للعنصرية والاستعمار ،

والتي مفادها ان المستعمر كان يأتي إلى أفريقيا وفي يده الكتاب المقدس ثم يدعو الأفارقة ان يغمضوا أعينهم للصلاة ، وما ان يفتحوها حتى يجدوا الكتاب المقدس في ايديهم ، اما أراضيهم فقد تبخرت ... فتلك خدعة استعمارية قديمة و لكنها سلسة ومؤدبة ، تسعى لحفظ المظاهر، لكن الوجه الاستعماري الجديد الذي يبشر به ترامب ،هو أكثر عجرفة ، إذ يشهر الكتاب المقدس كالسيف ، اولا لتبرير الابادة وثانيا للتهجير وثالثا للاحتلال وتغيير الملامح، وذلك تماهيا مع احلام صهيونية قديمة.
فكرة صهيونية قديمة:
يرى السياسي اليساري، رونالد رانس Ronald Rance)) في مقال بعنوان : "كابوس ترامب لغزة يحيل الى حلم صهيوني قديم" ان اقتراح ترامب تهجير الفلسطينيين من غزة وتحويلها الى منتجع ليست فكرة الرئيس الأمريكي بل كانت جزءا من مخطط صهيوني قديم للشرق الأوسط .
وللتذكير ، ففي ظل الحكم العثماني ،طردت الحركة الصهيونية آلاف الفلاحين من أراضيهم وكتب يوسف فايتس، مدير الهيئة الاستعمارية ”الصندوق القومي اليهودي“ وأحد مهندسي الصهيونية ، سنة 1940 في مذكراته”يجب أن يكون واضحاً لنا أنه لا مكان في فلسطين لهذين الشعبين... الحل الوحيد هو فلسطين، بدون عرب... والطريقة هي نقل العرب من هنا إلى البلدان المجاورة، جميعهم، ربما باستثناء سكان بيت لحم والناصرة ومدينة القدس القديمة. لا ينبغي ترك قرية واحدة ولا قبيلة واحدة“.
وفي سنة 2004 ، أجرت صحيفة هارتس مقابلة مع المؤرخ بيني موريس ، الذي كان يعتبر من "الصهاينة الليبراليين" ، انتقد خلالها أول رئيس وزراء إسرائيل ، دافيد بن غوريون، لأنه لم يستكمل عملية التهجير سنة 1948 وترك "احتياطيًا ديموغرافيًا كبيرًا ومتقلبًا في الضفة الغربية وغزة وداخل إسرائيل نفسها... إن عدم إتمام عملية التهجير كان خطأً.“
ديبلوماسية القساوسة:
وتستلهم خطة ترامب لتهجير سكان غزة من المشروع الصهيوني القديم و تتماهى كذلك مع مخطط اليمين المتطرف الاسرائيلي الذي مهد للتهجير بحرب مدمرة وابادة جماعية ، كان 70 بالمائة من ضحاياها من الأطفال والنساء ، وذلك للترهيب ودفع السكان للفرار.
وقد بدأ الرئيس الامريكي ذلك بإنشاء "ديبلوماسية القساوسة": مايك اريدك ان تكون سفيرا لدى إسرائيل،" ذاك ما ذكره القس السابق والحاكم السابق لولاية اركنساس Mike Huckabee ،في نوفمبر 2024، ، حول فحوى المكالمة بينه وبين ترامب ويضيف : "لأنني اؤمن بالكتاب المقدس دون قيد او شرط ، فإنني اخذ سفر التكوين على محمل الجد فقد ذكرنا بأن الله سيبارك الذين يباركون إسرائيل ويلعن الذين يلعنون إسرائيل“، ويعلّق الكاتب الصحفي بيار جوفا بقوله" هكذا تتحول الصهيونية المسيحية في عهد ترامب الى ديبلوماسية ".
"العنف المقدس" :
كانت لحظة اقتحام الكابيتول هيل (الكونغرس) في 6 جانفي 2021 من قبل أنصار ترامب الرافضين لنتائج الانتخابات لحظة فارقة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية وديمقراطيتها الداخلية ومؤسساتها الدستورية، لكنها كانت بالنسبة للمهاجمين لحظة دينية في حربهم المقدسة، حيث ركع العديد منهم على قارعة الطريق، مبتهلين الى الرب في خشوع، حاملين اعلاما تحيل الى الرب والمسيح وتمجد ترامب "المنقذ"، وهو ما اعتبرته إحدى الصحف "دمجا غير مقدس لتفوق العرق الأبيض مع المسيحية."
وان كانت السياسات الامريكية منذ اربعينيات القرن الماضي تساند إسرائيل باعتبارها الحليف الاستراتيجي و"الموثوق" في منطقة غير مستقرة، فان إضافة الرواية العقائدية، في بعدها الإنجيلي- الصهيوني الذي أصبح مسيطرا على الفعل الديبلوماسي والسياسي، سيزيد من صلف اليمين الإسرائيلي وسيدفع بمزيد حروب الإبادة تجاه الفلسطينيين، في مناطق فلسطينية أخرى، وقد يتوسع ليشمل الاردن وبلدان اخرى،
توسيع مساحة اسرائيل:
فقد اعلن ترامب خلال الصائفة الماضية ان مساحة إسرائيل صغيرة ويجب توسيعها ، ايمانا بضرورة سيطرة إسرائيل على المنطقة في انتظار ان يأتي المسيح لفض الصراعات بين البشر ، وقد لخص القس جيري فالويل Jerry Falwell مؤسّس جماعة العمل السياسي الأصولي المسمّاة “الأغلبية الأخلاقية ” The moral Majority المساندة لترامب ، نظرية المسيحية الصهيونية بقوله : "إنّ من يؤمن بالكتاب المقدّس حقاً يرى المسيحية ودولة إسرائيل الحديثة مترابطتين على نحوٍ لا ينفصم... إنّ إعادة إنشاء دولة إسرائيل في العام 1948 لهي في نظر كلّ مسيحي مؤمن بالكتاب المقدّس تحقيق لنبوءات العهدين القديم والجديد”
والحكام العرب من كل هذا؟
قد تبدو للبعض ان فكرة ترامب خيالية وقد يرونها جزءا من طريقته الفجة في التفاوض ورفع سقف طموحاته وتهديداته لمزيد الابتزاز، ولكنها تظلّ قابلة للتطبيق إذا توفرت الظروف المناسبة، ومن الطبيعي ان تعبر الانظمة العربية عن رفضها العلني للخطة، لا من منطلق دفاعها عن القضية الفلسطينية فقد سبق وان منعت حتى المظاهرات المساندة وزجت في السجن قيادات حزبية ومدنية ومواطنين عاديين خرجوا للشارع منددين بالإبادة في غزة، ولكن من منطلق الدفاع عن امنها القومي، وبالاحرى وجودها، لكن هل هي قادرة على المواجهة؟ كل المؤشرات تشي بأن كل الانظمة العربية تشكو هشاشة غير مسبوقة امام كل التحديات الخارجية ، بين انظمة تعوّل على واشنطن في حمايتها أمام التهديدات الاقليمية الحقيقية والمتخيّلة وانظمة لا يمكنها الاستغناء عن دعمها المادي امام اوضاعها الاقتصادية الكارثية ، تقول صحيفة الغاردين "ان فقدان المساعدات الامريكية لن يضعف اقتصادي مصر والاردن فقط، بل سيضعف جيوشهما واجهزتهما الامنية" مما سيؤثر على استقرارهما السياسي الهش وامنها الداخلي، لكن الاكيد ان المنطقة مقبلة على تغييرات عميقة واعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي ، وان ترامب ، على عجرفته وصلفه، سيواصل وضع النظام العربي الرسمي المتكلس في مواجهة امتحانات عسيرة ، حتى يقدم مزيد التنازلات.