تكشف عن نفسها وعن الرهانات المعقدة التي تفرضها على المشهد الإقليمي، وخاصة الفلسطيني، في ظل تحركات صهيونية تزامنت مع دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن، وهي دعوة حجبت ما تقع مناقشته في الكواليس من فرض إشراف «عربي» على قطاع غزة.
مقترح الإشراف العربي على قطاع غزة حجبته دعوة دونالد ترامب إلى تهجير الفلسطينيين من غزة بحجة أن الدمار الذي خلفته الحرب يجعل من الحياة في القطاع غير ممكنة، وأن إعادة إعماره تستوجب تهجير سكانه، فانشغل الجميع بالتصدي لهذا الخطر، وسارعت الدول المعنية إلى إعلان رفضها لما اقترحه ترامب، وهو ما تدعمه فيه كل من السعودية والإمارات اللتين شاركتا في لقاء عربي سداسي جدد رفض تهجير الفلسطينيين من أرضهم.
رفض دعوة ترامب بتهجير الفلسطينيين من قبل ممثلي الدول الست (مصر والأردن والسعودية والإمارات وقطر والسلطة الفلسطينية وجامعة الدول العربية) لم يقترن برفض أية ترتيبات أمريكية وصهيونية تُفرض على قطاع غزة، الذي باتت الكواليس تناقش اليوم فرض حكم عربي عليه، وهو ما يفسر اقتصار بيان السداسي على رفض الدعوة لتهجير الفلسطينيين من أرضهم دون أن يلمّح، ولو بشكل عرضي، إلى رفض إعادة احتلال القطاع أو فرض حكم أجنبي عليه تحت أي مسمى.
تجنب الذهاب إلى تقديم قراءة شاملة وموقف موحد يضع أطرًا للعملية السياسية في ما تبقى من مسار المفاوضات بين المقاومة والاحتلال، يحول دون أن ينتزع الاحتلال بأيادي «الأخوة» ما عجز عنه جيشه في قطاع غزة طيلة 15 شهرًا، ودمر من أجله بنيته التحتية بشكل كامل، وتسبب في تشريد 80 ٪ من سكانه الذين فقدوا منازلهم.
و يسعى الاحتلال اليوم إلى أن يجد مخارج تسمح له بالسيطرة على قطاع غزة من خلال طرف ثالث. فهو لا يرغب في أن تتواجد السلطة الفلسطينية في القطاع للاشراف عليه، رغم ما تقدمه الأخيرة اليوم من تنازلات غير مسبوقة، باعتبار أن وجود السلطة في كل من الضفة وغزة قد يكون خطوة نحو إقامة دولة فلسطينية، وهو ما يرفضه الاحتلال كليًا. كما أنه غير قادر على تحمل التكلفة السياسية والعسكرية لإعادة احتلال القطاع، لذلك فهو يبحث اليوم عن خيار بديل.
هذا الخيار الذي من أجله ينتقل بنيامين نتنياهو إلى واشنطن للقاء دونالد ترامب، بهدف تحديد الخطوة القادمة في الحرب على غزة تضمن انتصار الاحتلال على المقاومة. هنا، لا تتعلق المشاورات بتحقيق نصر عسكري، بل بما يمكن أن يتحقق سياسيًا، ولو كان ذلك بضغط عسكري على المقاومة لإجبارها على القبول بوجود قوات عربية في القطاع.
هذه القوات العربية التي يُعاد من أجلها رسم مشهد سياسي جديد في المنطقة، يجري تسويقها على أنها «أفضل الشرور»، باعتبار أن مستقبل غزة لا يزال مجهولًا، وسط سيناريوهات متعددة تتراوح بين استمرار الحرب ومحاولة فرض تهجير قسري، أو التوصل إلى تسوية هشة قد لا تصمد طويلًا. لذلك، فإن الضغوط الدولية تتصاعد مع بداية هذه المناورات السياسية التي يبدو أنها تهدف في النهاية إلى تقديم ضمانات للاحتلال الصهيوني باحتواء المقاومة ومنع خطرها عليه بأيادٍ عربية.
هذه المناورة، التي أُعيد إحياؤها خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة مع اقتراب إقرار صفقة تبادل الأسرى، بعد أن أسقطها طوفان الأقصى، يبدو أنها في طور تنزيلها تدريجيًا واستغلال انطلاق المرحلة الثانية من المفاوضات غير المباشرة بين الاحتلال و«حماس» لفرضها من منطلق أن أية صفقة جديدة يجب أن تتضمن قبول المقاومة بوجود قوات عربية تشرف على إدارة قطاع غزة.
ذلك ما سبق أن كشفت عنه وكالة «رويترز» بنقلها تصريحات لدبلوماسيين ومسؤولين غربيين كشفوا عن وجود نقاشات حول إمكانية أن تشرف الإمارات، إلى جانب دول أخرى، على الحكم والأمن وإعادة الإعمار في غزة بعد انسحاب جيش الاحتلال بشكل مؤقت، إلى أن تتمكن الإدارة الفلسطينية من تولي المسؤولية بعد خضوعها لإصلاحات كبرى.
في ظل هذه التناقضات، تبدو السيناريوهات مفتوحة على عدة احتمالات، من ترسيخ هدنة طويلة الأمد مع ترتيبات سياسية جديدة، إلى احتمال انهيار المفاوضات وعودة التصعيد العسكري. كما يبقى خيار تحقيق توافق فلسطيني داخلي لإعادة توحيد غزة والضفة الغربية مستبعدًا في الوقت الحالي، لكنه يظل الحل الوحيد القادر على كسر الجمود الحالي