ما بين التهجير وشراء غزة وإعادة إعمارها:  في الخلفيات الحقيقية للمشروع الأمريكي الصهيوني

تفاجأ العالم من جنوبه الى شماله بتصريحات الرئيس الأمريكي الأخيرة حول مستقبل غزة

ونيته شراء أرضها وتحويلها الى منتجع سياحي عالمي و«توفير» أماكن بديلة لأهاليها بل وربما «موطن وطني فلسطيني» على غرار «الموطن الوطني اليهودي» الذي وعد به الوزير البريطاني بلفور سنة 1917 الحركة الصهيونية في أوروبا .. ولكن بطبيعة الحال هذا «الموطن الوطني لليهود» هو على أرض فلسطين بينما قد يكون «الموطن الوطني للفلسطينيين» في المملكة السعودية أو في مصر أو في الأردن أو مشتتا بين هذه الدول وغيرها، وهكذا تصبح فلسطين التاريخية أرضا لحاملي جنسية الدولة العبرية فقط لا غير، ولم لا، مستقبلا، اجلاء كل ما يسمى بعرب اسرائيل (أي الفلسطينيين الحاملين للجنسية الفلسطينية) الى هذا «الموطن» وهكذا تصبح فلسطين أرضا يهودية اسرائيلية صرفة.

هكذا يبدو «المقترح» الأمريكي الذي أسال لعاب قادة دولة الاحتلال» باعتباره يمثل «الحلّ النهائي» للوجود الفلسطيني باعدام الفلسطينيين تاريخيا وجغرافيا وقتل حلم اقامة دولة فلسطينية ولو على جزء من أرض فلسطين التاريخية.

ازاء ما اعتبر كجنون جديد لساكن البيت الأبيض، تعالت الأصوات بالاستنكار والتنديد وحصل ما يشبه «الاجماع العربي» على رفض تهجير سكان غزة ورفض مقترحات ترامب جملة وتفصيلا ..

لكن، هل نحن فعلا إزاء مقترحات مجنونة؟ أم أمام خطة أعمق وأخطر من المُعْلن بدفع التحدي الى اقصاه حتى يعتبر الحكام العرب وبقية دول العالم أن التراجع النسبي عن هذا «الجنون» الأمريكي الصهيوني انما هو «مكسب» جديد للقضية الفلسطينية ؟..

قراءة واقعية باردة للأحداث تكشف لنا بوضوح الهدف الرئيسي غير المعلن لهذا «الجنون».

لقد اقترف الكيان الصهيوني إحدى أكبر وأفضع الجرائم ضد الانسانية منذ الحرب العالمية الثانية و رغم قتل أكثر من خمسين ألف فلسطيني (وقد يكون العدد النهائي أرفع بكثير) وجرح (نتحدث عن جروح الحرب لا عن جروح العادية البسيطة) أكثر من مائة ألف وتدمير غالبية المباني والقضاء على كل البنية التحتية .. رغم حرب الابادة هذه والتي تمت بدعم بلا حساب من الولايات المتحدة وبإسناد الدول الأوروبية الكبرى لم تتحقق أهداف الحرب المعلنة من قبل قيادة دولة الاحتلال، اذ لم يتم تحرير الأسرى بقوة السلاح ولم يتم تحطيم المقاومة المسلحة رغم الضربات الموجعة التي تلقتها ..

والسؤال البسيط هو: ما الذي يسمح للمقاومة بمثل هذا الصمود الأسطوري ؟ ولِم لم يحصل ذلك في الضفة ؟

لاشك أننا أمام مقاومة مسلحة (حماس والجهاد وبقية الفصائل الأخرى باستثناء فتح للأسف الشديد) أظهرت شجاعة أسطورية وتخطيطا عسكريا مذهلا .. لكن هذا لا يكفي لوحده لتفسير ما حصل ..

الواضح، انه لو لا الشبكات الأخطوبية والمنفصلة عن بعضها البعض للأنفاق ذات الأهداف المختلفة من أنفاق هجومية وأخرى دفاعية وأخرى لخزن السلاح وأخرى لخزن المؤونة وأخرى لتنسيق العمليات وأخرى لإخفاء الأسرى وأخرى كثيرة لحماية مختلف الكتائب المتشابكة مع العدو من الغارات الجوية ومن القذائف المدفعية .. فبعد 15 شهرا من القصف والدمار مازالت غالبية الأنفاق موجودة ومازالت تسمح للمقاومة المسلحة بشروط الاستمرار وبحدّ مرتفع من الجاهزية ومن التماسك الداخلي ومن السيطرة على جزء هام من المعادلات البشرية والمادية على الارض ..

هدف اسرائيل الأساسي اليوم هو التدمير الكلي والنهائي لهذه الانفاق حتى تصبح المقومة غدا – في صورة موجات جديدة من العدوان – في وضع أشبه ما يكون بوضع الضفة الغربية ويقطع عليها بنسبة هامة تكتيكات الكرّ والفرّ الضرورية لبقائها وصمودها..

ينبغي أن ندرك اليوم أن اعمار غزة الضروري لأهلها يستبطن هذا الخطر المحدق بمقاومتها خاصة إذا أعطيت القيادة الأمنية لعملية الاعمار للولايات المتحدة الامريكية إما بصفة مباشرة أو بصفة غير مباشرة..

المؤكد هنا أن التطهير العرقي للفلسطينيين عبر تهجيرهم كلهم إلى دول الجوار هو الهدف الاستراتيجي الرئيسي لدولة الاحتلال، لكن القيادة العبرية تدرك بوضوح أن هذا الهدف مازال بعيد المنال وانه يحتاج الى وقت طويل نسبيا وفق جدلية القمع والاغراء و«اقناع» بعض دول الجوار بـ «الانخراط» في هذا المشروع ..

هنا يصبح الهدم الكلي والنهائي للأنفاق مسألة حيوية لدولة الاحتلال وإعادة الاعمار هي الفرصة التاريخية لتحقيق هذا الهدف..

فكرة «شراء» غزة خبيثة للغاية اذ أنها ستمهد بصفة مركزة للاستحواذ الأمني والهندسي على عملية الإعمار مع «تراجع» مشهدي عن «الشراء» مقابل «فرح» حكومات عربية بهذا «الانتصار» واستعدادها للتمويل دون أن تكون لها مراقبة على العملية وبدلا من التهجير خارج قطاع غزة سيتم «اجلاء» السكان الوقتي من مواقع اعادة الاعمار الموقع تلو الاخر ، هنا ستجد المقاومة المسلحة نفسها في تحد جديد قد يكون أخطر من تحدي حرب الابادة ذاتها ، هل ستعترض على اعادة الإعمار حماية للأنفاق؟ هل سيرضى سكان غزة باختيار كهذا ؟ وهل ستتمكن حماس وبقية فصائل المقاومة من المراقبة الأمنية والهندسية لعملية الاعمار هذه حتى لا تتم على حساب السلاح الاستراتيجي الأول للمقاومة: الأنفاق؟

هذه هي مخاطر الحقيقة الآنية المحدقة بقدرة الشعب الفلسطيني على المقاومة المسلحة في غزة ، والقضاء على هذه الامكانيات اللوجستية هو الهدف الحقيقي من وراء «جنون» التصريحات الممهدة حتما لصفقة تقصي الفلسطينيين من ادارة عملية اعادة الاعمار بمباركة وتمويل ورضا عربي كذلك ..

يخطئ من يعتقد أن «الجنون» هو الذي يسيّر أمريكا اليوم، بل هو التخطيط لاستعادة الهيمنة المطلقة على العالم. لكن يقول المثل التونسي «اللي يحسب وحدو يفضلو».