الإفراج عن سهام بن سدرين ورياض المؤخر ومحمد بوغلاب:  هـل هـي بـداية التهدئة؟

دون مقدمات أو تمهيد يهيئ الساحة السياسية التونسية لمثل هذا التطور في الأحداث،

أعلن خلال الساعات الـ 36 الفارطة عن استجابة القضاء التونسي لمطالب الإفراج في ثلاثة ملفات منفصلة لا يجمعها إلا توتر المناخ العام والطابع السياسي الذي تكتسيه ولو بصورة غير مباشرة.

في اليومين الأخيرين تواترت الأنباء المعلنة عن الأفراد عن تونسيين وتونسيات يعتبرون من الشخصيات العامة لنشاطها في الحقل السياسي أو الإعلامي أو الحقوقي والجمعياتي، أبرزهم سهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة السابقة، رياض المؤخر وزير البيئة والشؤون المحلية الأسبق، ومحمد بوغلاب الصحفي والإعلامي التونسي، وذلك بعد قبوعهم في السجن لأشهر وسنوات للبعض.

دون مؤشرات سابقة، أصدر القضاء التونسي قراراته بالإفراج أو الإبقاء بحالة سراح في حق هذه الشخصيات وتلك في مرحلة هيمن عليها خطاب سياسي يرفع من حدة التوتر في المشهد ويعزز الاستقطاب فيه، مما يثير العديد من التساؤلات حول دلالات هذه الخطوات في السياقين السياسي والقانوني.

ان غياب الخطاب السياسي الرسمي وتعدد التفسيرات يجعلنا أمام أحد الاحتمالين: إما أنه وإن لم يكن هناك إعلان سياسي رسمي، نتجه إلى انفراجة سياسية قد تقود إلى حوار وتهدئة وطنية شاملة، أو أننا إزاء مسار قضائي بحت، أي أن المنظومة القضائية اشتغلت وفق الأطر القانونية المتوفرة لها للنظر والحسم في ملفات فانتصرَت لمبدأ المحاكمة العادلة وما يتضمنه من أسس وركائز، فكان قرارها الأخير تطورًا طبيعيًا.

القدرة على الفصل والقول بشكل حاسم حول ما اذا كان أحد هذين الخيارين هو الأصح والأدق غير ممكنة دون خطاب سياسي أو مؤشرات إضافية تنقذنا من الوقوع في فخ التسرع في الاستنتاج أو سوء فهم المشهد، وبالتالي خلاصته. لهذا قد يكون الأسلم اليوم هو الاقتصار على المستوى الأول للأحداث، وإن كان تتابعها الزمني قد يولد انطباعًا بأننا أمام بوادر انفراج سياسي ينهى حالة من التداخل بين السياسي والقضائي ويسمح بتنقية المناخ السياسي وإنهاء حالة التجريم التي هيمنت على العمل السياسي، فقادت إلى ركود شبه كلي في كل أوجه الحياة المشتركة للتونسيين.

وبوادر الانفراج توحي بها القرارات الثلاثة التي صدرت خلال حيز زمني لم يتجاوز 20 ساعة: انطلق بإعلان دائرة الاتهام الإفراج عن بن سدرين وتتبعها في حالة سراح مع تحجير السفر عنها إلى حين انتهاء مسار الأبحاث والتحقيق والمحاكمة في القضية التي أثيرت ضدها، ولاحقًا صدر قرار قضائي بالإفراج عن متهمين في قضية فساد مالي وسياسي وهما الوزير الأسبق رياض المؤخر والحبيب كروبل ملازم في الحماية المدنية وتأجيل جلستهما إلى 8 ماي القادم، وبالتالي الإفراج عنهما من السجن.

بعد دقائق قليلة لم تكد تتجاوز الـ 100، أُعلن عن الإفراج عن الصحفي محمد بوغلاب الذي يُحاكم في قضايا على معنى المرسوم 54 وصدرت في شأنه أحكام ابتدائية، ولكن يوم أمس صدر قرار بالإفراج عنه ليكون رابع المفرج عنهم في قضايا شغلت الرأي العام والساحة السياسية التونسية وبرز طابعها السياسي.

هذه القرارات التي ولئن كانت قضائية، إلا أن لها انعكاسًا سياسيًا، مما يجعلها بأشكال عدة مؤشرًا أوليًا على بوادر الانفراج في المشهد التونسي وتخفيف الاحتقان الذي نجم عن تجريم العملية السياسية في تونس. خاصة في ظل الأوضاع الحالية التي تتسم بتوترات مستمرة بين السلطة والمعارضة، وقد يُنظر إلى هذه القرارات على أنها إشارة عن استعداد السلطات لتهدئة الأوضاع من خلال ضمان احترام الحقوق الأساسية للأفراد، حرية التعبير والحق في المحاكمة العادلة، وهما ركيزتان قد تسمحان لاحقًا بإعادة تشكيل المشهد السياسي التونسي بصورة سليمة.

لتجنب الإفراط في التفاؤل الذي قد يؤدي إلى خيبات، خاصة وأن البلاد عاشت في فترات سابقة على وقع بوادر انفراج أولية سرعان ما انقلبت، على غرار القرارات القضائية بالإفراج عن عدد من المتهمين في قضايا التآمر على أمن الدولة وتتبعهم في حالة إيقاف، الذي فُهم حينها على أنه بداية تهدئة من السلطة في ذلك الملف كما في غيره من الملفات، لكن التطورات اللاحقة كشفت عن سلوك السلطة نهجًا أكثر تشددًا.

سواء أتفاءل البعض أو اتخذ حذره، فإن القرارات الأخيرة لا تسمح لنا بأن نغفل عن إثارة تساؤلات مهمة حول سير المرفق القضائي في هذا السياق. فالإفراج عن هذه الشخصيات بعد مسار قضائي اتهم بالتشدد واعتماد الاستثناء كقاعدة في علاقة بإصدار قرارات الإيقاف وبطاقات الإيداع بالسجن في قضايا يمكن أن يمثل أصحابها في حالة سراح، خاصة وأن المشرع التونسي الذي ينص على أن الأصل هو الحرية والسجن هو الاستثناء، يمنح هؤلاء المفرج عنهم كما غيرهم من الموقوفين على ذمة قضايا أخرى حق التتبع في حالة سراح باعتبار أنهم يستجيبون لكل الشروط التي وضعها المشرع، وهي عدم التأثير على سير الأبحاث أو أن يمثل أحدهم تهديدًا على المجتمع.

هنا، وفي ظل هذه القرارات التي نزلت بحق هؤلاء التونسيين والتونسيات في التمتع بما يتضمنه القانون من إجراءات تحمي حريتهم وتضمن حقهم في محاكمة عادلة، تشترط أن يتمتع كل متهم بقرينة البراءة وما تستوجبه تنزيل هذه القرينة من إجراءات قانونية وقضائية لفائدة المتهم، يصبح من المهم أن يطرح على الطاولة حق كل تونسي وتونسية في محاكمة عادلة بعيدًا عن أي تأثيرات خارجية في سير القضاء سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو غيرها.

ضمان حق كل التونسيين في هكذا محاكمات ينقي المناخ العام بفرعيه السياسي والقضائي من أي شوائب أو شكوك تتعلق بتداخل الفضائين، وبالتالي في رؤية أي حدث على أنه امتداد لسلطة ما أو خيار سياسي يبحث عن تحقيق ربح، وبالتالي التشكيك في نزاهة القضاء واستقلاليته.

وبالتالي، النظر إلى أي قرار في هذه الملفات على أنه امتداد لفعل سياسي أتت به السلطة، وهو ما قد يؤثر بالسلب على كافة أوجه العيش المشترك للتونسيين الذين سينظرون بعين الريبة إلى أي قرار قضائي وإن كان ينتصر للمبدأ وحق المحاكمة العادلة، ويبوبونه على أنه مناورة سياسية من قبل السلطة تهدف لتخفيف الضغط عليها، أيًا كان هذا الضغط داخليًا أو خارجيًا.

ما سيحدد طبيعة هذه القرارات وكيف سيتقبلها التونسيون هو النهج الذي سيسلكه المرفق القضائي في قضايا مماثلة ومشابهة هي اليوم بالعشرات أمام دوائر، وقراراته في شأنها ستكون هي الإجابة الصريحة إن كنا إزاء انفراجة سياسية تنطلق من رفع اليد على القضاء وإنهاء تجريم العملية السياسية، أم أننا أمام مناورة تهدف إلى تخفيف الضغط دون تغيير جوهري في مقاربة السلطة وتعاطيها مع الملفات السياسية الوطنية اذ لا مؤشر يحول دون ان ينظر الى هذا الإفراج عن الشخصيات السياسية والإعلامية على انه خطوة مدروسة من قبل السلطة، في إطار عملية تهدئة، دون أن يعكس بالضرورة تغيرًا جذريًا في نهجه القضائي. هذا النهج الذي قام على أساس تجريم العمل السياسي وملاحقة جل الفاعلين بتهم التآمر والإرهاب وزج بالمرفق القضائي في دائرة شكوك التوظيف السياسي، لا يمكن القول إنه تم التخلي عنه ما لم تُعالج بشكل كلي ونهائي عدة نقاط أساسية دونها لا يمكن ضمان محاكمة عادلة للتونسيين في أي سياق كان.

أبرز هذه النقاط هي المتعلقة بإجراءات الإيقاف والاحتجاز التي تخضع لمعايير قانونية غير دقيقة، مما يجعل القرار عرضة لتأثيرات سياسية. وإذا كان من المفترض أن يتم اللجوء إلى التوقيف التحفظي في الحالات التي تشكل فيها القضايا خطرًا حقيقيًا على سير التحقيق، فإن الواقع يشير إلى أن هذا التوقيف يُستخدم أحيانًا في قضايا ذات خلفيات سياسية دون مبررات واضحة.

وهو ما يجعل من شروط التهدئة السياسية وانفراج المشهد طرح النقاش بشأن المراجعة الشاملة للمنظومة القضائية لضمان استقلاليتها أولًا، وضمان حق كل تونسي أيًا كان السياق السياسي، في محاكمة عادلة تضمن له العدالة التي لا تتحقق فقط من خلال قرارات قضائية فردية، بل من خلال إصلاح عميق وشامل للمؤسسات القضائية، يضمن أن تكون المحاكمات عادلة ونزيهة، بعيدًا عن أي تأثيرات أو حسابات سياسية.

ما تحتاجه البلاد ليس قرارات تفتح الباب للتأويل إزاء انفراج أم أمر آخر، ما نحتاجه تجاوز منطق التوظيف السياسي للعدالة، وضمان أن يكون العدل هو المعيار الوحيد الذي يُحتكم إليه في القضايا المطروحة أمام المحاكم. والتحدي الأكبر يتمثل في ضمان بيئة قضائية محايدة لا تُخضع لأي حسابات سياسية أو ضغوط شعبية.