تعيش الساحة النقابية إلى اليوم تداعيات مؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل الذي انعقد بمدينة سوسة سنة 2021 تزامنا مع انتشار جائحة كورونا بموافقة من السلطة آنذاك والذي تلاه مؤتمر مدينة صفاقس سنة 2022. ولم يكفّ أحرار المنظمة وحرائرها عن التعبير بأصوات عالية عن رفضهم الصريح للمؤتمرين المذكورين غير الشرعيين وتنديدهم بالانقلاب على الفصل العشرين من النظام الداخلي للمنظمة. وقد تحولت الانتقادات الموجهة إلى القيادة النقابية المركزية والجهوية والمحلية إلى معارضة نقابية صلبة قائمة الذات تبني يوما بعد يوم اللبنة تلو اللبنة وتكتسح الساحة النقابية. وأضحت المعارضة النقابية اليوم واقعا ملموسا يصل صداها إلى القاصي والدّاني بفضل حزامها الذي ما فتئ يتوسّع. واعتبر النقابيون والنقابيات خلال الندوة التي انعقدت يوم الثلاثاء 15 أكتوبر 2024 بمدينة صفاقس تحت عنوان: “الأزمة الراهنة للاتحاد العام التونسي للشغل وسبل تجاوزها” أنّ الأزمة العميقة والخطيرة التي يعيشها الاتحاد العام التونسي للشغل والمنجرّة عن الانقلاب على الفصل العشرين لا يمكن تجاوزها عبر “المؤتمر الاستثنائي” أو “المؤتمر السّابق لأوانه” أو من خلال “التمديد للمجلس الوطني بيوم” أو انتظار “المؤتمر 26” الذي يحلّ أجله سنة 2027 كما تدّعي مختلف أجنحة البيروقراطية الانقلابية بل بتشكيل هيأة تسييرية تأخذ على عاتقها الإعداد للمؤتمر الرّابع والعشرين الحقيقي على قاعدة النّظام الدّاخلي لسنة 2017 وتطلق سيرورة انتخابات ديمقراطية وشفافة لكلّ النّقابات في مختلف المسؤوليّات.
وأمام ما تشهده الساحة النقابية من تطورات متسارعة حمي وطيسها لا سيّما بعد الاعتصام الذي نفذه الخماسي داخل مقر المركزية النقابية ببطحاء محمد علي الحامي والذي سبقه اعتصام المعارضة النقابية في العراء وجها لوجه مع البرد والصقيع والأمطار على امتداد ثمانية وعشرين يوما، اتصلنا بالدكتور رضا مقني الباحث في التاريخ المعاصر وأجرينا معه الحوار التالي:
سؤال : هل يمكن اعتبار الأزمة النقابية الحالية أزمة ذات طابع تنظيمي وهيكلي فقط أم أنها ذات جذور أخرى ؟
جواب : أعتقد أن العمل النقابي بلغ مرحلة تتطلب تطوير ومراجعة أساليب العمل و مضامين الخطاب النقابي التي سادت طيلة عقود في مستوى علاقة القيادة بالهياكل الجهوية والقطاعية والمحلية وفي علاقتها بالنظام الحاكم في تونس وبالحركة النقابية العالمية وتصوراتها وبناء تصور جديد للعمل النقابي يقطع مع المظاهر السلبية في تجربة العقود السابقة ويثمن المكاسب والإيجابيات التي تحققت – حتى لا يكون التقييم عدميا- يستدعي وجود قيادة قادرة ومستعدة لإنجاز هذه المهمة .
ومن المظاهر السلبية التي رافقت المسيرة النقابية منذ 1956 نذكر مثلا إقحام المنظمة النقابية في صراعات الأجنحة داخل النظام الحاكم من خلال دعمها لجناح ضد آخر في حين نعتقد أن مصالح منخرطي الاتحاد وعموم الشغالين لا ترتبط بأجنحة السلطة المتصارعة بقدر ما ترتبط بوضع خطط نضالية وأهداف بعيدة وقريبة تتعلق بمصالح الشغالين المعنوية والمادية في ارتباط بالقوى الجماهيرية والسياسية الطامحة لبناء مجتمع بديل للمجتمع السائد. ولنا في حدثي 26 جانفي 1978 و1985 وعشرية التسعينات أمثلة على تضرر العمل النقابي والمنظمة من انخراط الاتحاد في دعم النظام أو أحد أجنحته.
غير أن هذا لا يعني أن اتحاد الشغل لا يهمه الشأن السياسي في البلاد والخوض في الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية بل هو مدعو لبلورة برامج ومواقف تتمايز مع توجهات النظام التي لا تخدم مصالح الشغالين وقد تجسد ذلك في برامج اقتصادية واجتماعية أنجزت من قبل مكاتب دراسات الاتحاد لكنها افتقدت للخيط الرابط وللبوصلة الواحدة وتقاذفتها تأثيرات المنظمات النقابية العالمية التي ليست في قطيعة مع الرأسمالية العالمية.
ثم إن المنطق يستوجب تقدم المنظمة على طريق تجسيد فعلي لشعار نضالية وديمقراطية العمل النقابي غير أن ما حصل في السنوات الأخيرة من ضرب لمكاسب ديمقراطية تمثلت في تنقيح الفصل 20 واتخاذ قرارات طرد وتجميد وتأثير مباشر من القيادة في سير المؤتمرات يعتبر خطوات للوراء مقارنة بفترة ما بعد 2011 في ظرف كان المطلوب من الاتحاد أن يكون قدوة في الممارسة الديمقراطية.
فالأزمة الحالية هي ليست فقط تنظيمية بل هي ترتبط أيضا بمضامين العمل النقابي وتراجع حضوره في صفوف الكادحين بسبب غياب الخطط العملية التي تعزز هذا الحضور وبسبب ممارسات غير سليمة ومقرفة صادرة عن بعض المسؤولين الذين لا يشرفون العمل النقابي.
سؤال : ما هي طبيعة الصراع الدائر بين طرفي القيادة، مجموعة العشرة ومجموعة الخمسة ؟
جواب : إن المطلع على بيانات ومداخلات الطرفين و نذكر منها مثلا النص الطويل الذي أمضاه العشرة وجاء تحت عنوان “الحوار والوحدة سبيلنا لإنقاذ الخيمة” وبيان الخمسة بعد فك الاعتصام وكان تحت عنوان “دفاعا عن الاتحاد العام التونسي للشغل” بتاريخ 18 فيفري يلاحظ أن الفريقين لا يعلنا بالمرة موقفا من تداعيات مؤتمر صفاقس 2022 ويتم حصر الصراع في صحة الدعوة لمؤتمر استثنائي أم لا وفي استكمال أشغال المجلس الوطني أم لا بل إن بيان العشرة يشترط استعمال التصويت بالتمثيلية النسبية في المؤتمر القادم انطلاقا من حسابات مصلحية ضيقة.
غابت تماما نقاط مثل الاعتراف بخطأ ما حصل في مؤتمر سوسة 2021 الذي انعقد في ظروف انتشار الكوفيد بمباركة من السلطة أو الدعوة لمراجعة قرارات لجنة النظام في حق العديد من النقابيين ولم تتضمن هذه البيانات خطة نضالية ترتبط بمصالح الشغالين والنقابيين المعزولين وبمشاريع مثل تنقيح مجلة الشغل وبالمفاوضات الاجتماعية واتخاذ السلط قرارات من جانب واحد.
حين تنعدم هذه المسائل يصبح جوهر الصراع هو “حرب المواقع” ويصبح شعار “الموقع قبل الموقف” هو البوصلة التي تقود لكن هذا النهج لن يرضي القواعد الواسعة الصامتة لحد الآن التي تصبح مصلحتها في هذه الحالة تتمثل في تنظيم صفوفها وتشكيا معارضة نقابية داخل الهياكل للتصدي لعبث جناحي البيروقراطية النقابية وتنظيم صفوفها وضبط خطة نضالية وأرضية موحدة لكل المسؤولين النقابيين الرافضين للصراعات غير المبدئية.
سؤال : كيف ترى مآلات الأزمة التي تستفحل يوما بعد يوم وفي ذلك إلحاق أضرار جسيمة بسمعة المنظمة وتاريخها العريق ؟
جواب : لا يمكن حل الأزمة إلا من داخل هياكل الاتحاد وكل ما يخالف ذلك هو دعوة للانشقاق وقد فشلت عبر التاريخ ومنذ 1956 كل مسارات الانشقاق التي عرفتها المنظمة وتعرضت لها بسبب صراعات داخلية ومؤامرات خارجية.
إن المكتب التنفيذي الحالي مسؤول حسب النظام الداخلي على الدعوة لانعقاد هيئة إدارية وطنية التي لم تجتمع منذ سبتمبر 2024. وتطرح الهيئة الإدارية الوطنية النقاط التالية على جدول أعمالها وتتجنب التصويت بالتمثيلية النسبية:
• تكوين لجنة لتنقيح القانون الأساسي والنظام الداخلي بما يضمن إلغاء الفصل 20 والفصول المتعلقة بالتمثيلية النسبية.
• دعوة لجنة النظام لرفع التجميد والطرد عن النقابيين.
• دعوة لجنة المالية للنظر في الوضع المالي وتقديم تقرير للمجلس الوطني الاستثنائي.
• طرح خطة نضالية تتعلق بمطالب الشغالين المعنوية والمادية عامة وقطاعيا ودعم الإضرابات والتحركات الاحتجاجية.
• الدعوة لعقد مجلس وطني استثنائي في صائفة 2025 ومؤتمر استثنائي في جانفي 2026 على قاعدة النقاط السابقة.
• فتح صفحات جريدة “الشعب” لحوار حول الوضع النقابي في نطاق احترام الرأي المخالف.
• تنظيم لقاءات مفتوحة في دور الاتحاد حول الوضع النقابي وإطلاق حركة نقد ونقد ذاتي واسعة تحترم في مختلف الآراء وتكون بعيد عن الشخصنة والتجريح.

ومن ناحيتنا، نشير إلى أنّ الاعتصام قد وقع تعليقه يوم الجمعة 21 فيفري 2025. وقبل الاعلان عن ذلك، تلت هيئة الاعتصام المتكونة من الهيأة التأسيسيّة للمعارضة النقابية بجهة تونس، الملتقى النقابي لترسيخ الممارسة الديمقراطية واحترام قوانين المنظمة ومبادرة تصحيح المسار النقابي ببن عروس بيانا جاء فيه بالخصوص: “نعلن اليوم عن تعليق اعتصام البطحاء الذي مثل ملحمة سطرها مناضلات ومناضلون أحرار في العراء متحدين الظروف المناخية القاسية جدا وصلف البيروقراطية المنقلبة مع إرادة القواعد وقوانين المنظمة وكذلك قمع السلطة التي منعتهم من نصب خيمة واستجلاب الحشايا والأغطية لتقيهم البرد الشديد والأمطار […] إن هذا الاعتصام ليس سوى محطة نضالية ضد البيروقراطية وضد كل أعداء العمل النقابي وإن المعتصمين وانطلاقا من وعيهم بطبيعة المعركة التي يخوضونها على أهبة الاستعداد وفي أي وقت للعودة للاعتصام ولممارسة كل أشكال النضال المتاحة لإنقاذ الاتحاد بجعله منظمة نقابية عمالية ديمقراطية وموحدة وقوية قادرة على التصدي للخيارات الاقتصادية والاجتماعية الليبيرالية لمصالح الشغالين وللحريات العامة والفردية”.
وقد أكدت المعارضة النقابية بجهة صفاقس أنّ عقد ندوة وطنية للمعارضة النقابية ووضع خارطة طريق في أقرب الآجال أصبح أمرا ضروريا وحتمية تاريخية للتعجيل بإنقاذ المنظمة. ودعت إلى ضرورة تجاوز كلّ الأطراف للإشكاليات التي طرأت خلال تنفيذ الاعتصام والتّمسّك بوحدة المعارضة النقابيّة وتطوير مقارباتها لحلّ أزمة الاتّحاد العام. بالإضافة إلى ضرورة عقد لقاء بمختلف مكوّنات المعارضة النّقابيّة لمزيد تعميق النّقاش حول الاعتصام وافرازاته والتّباحث في آفاق نضال المعارضة النّقابيّة في الفترة القادمة.

مصدّق الشريف

The post تنظيم لقاءات مفتوحة في دور الاتحاد حول الوضع النقابي وإطلاق حركة نقد ونقد ذاتي واسعة تحترم في مختلف الآراء وتكون بعيد عن الشخصنة والتجريح. appeared first on موقع الصحفيين التونسيين بصفاقس.